الشمس والعيون المدوّرة
يجلس محمود القرفصاء.. عمال الباطون على باب الدار الصغيرة التي يستأجرها حالياً، ولعامل الباطون قرفصاؤه الخاصة، حيث يستند إلى قدمين مبسوطتين تماماً ويباعد رجليه ويسند إليهما جذعه، فيترك لعموده الفقري أن يمتد امتداده الأقصى، وهو ما يحتاجه بشدة خاصة في يوم بطالة ربيعي بشمس لطيفة.
عاش محمود وعائلته حصار المخيم لأكثر من سنة، تناولوا «حساء البهارات» مراراً، وتنفخت منه أجسادهم الضئيلة. تمكن في النهاية من الخروج مخلفاً وراءه ذكريات لا تنطفئ وأخاً قتله الجوع. رغم ذلك كلّه، ها هو الآن يتملّى من الشمس الربيعية فيحمر وجهه بشدة. يمكنك إن أمعنت النظر أن تلمح في زوايا عينيه فرحاً طفيفاً غامضاً مستكيناً، رغم المصائب التي لم تتوقف، يبدو لك واضحاً، أنّ الشمس فعلت فعلها فتسربت إلى لبّ العظام فدفأتها تماماً، ومن ثمّ فاضت على وجهه ابتسامة لم يقو على منعها.
تسير في زحمة الوجوه المتعبة، الفقر والهم يمتدان ويعرّشان في القلوب. الكل منهك ولكنه متحفز، ينتابك إحساس عميق بأن كل شخص في هذه المدينة مستعد لأن ينشب أظافره في وجه أي شخص آخر لأتفه الأسباب، ومستعد لأن يملأ الدنيا سباباً وصراخاً وحقداً وعويلاً، مستعد أن يفرغ حقد الأرض كلّها على رأس أول «مستبد صغير» يواجهه. رغم ذلك فإنّ الشمس فعلت فعلها، ورغم أنّ العيون مزمومة ومتمترسة على حذرها، إلّا أنك تلمح استدارتها الواسعة بل وابتسامتها وضحكها على بعد عناق طفيف أو نكتة بلا معنى.
يعبر الطريق سرب صبايا جميلات يطلقن ضحكاتهن وقد انتشين بجمالهن وزادهن تطفل المارة المشدوهين حبوراً، يعبرن كطيف أو كرؤيا. تفقد العيون حذرها وتستدير، تنتشر عدوى الابتسام، ويتحرك في الداخل الرقص المتراكم دون تنفيس منذ سنوات. يكاد الفرح يحط على الأرض مقيماً فيها، ولكنه لا يلبث أن ينسحب تاركاً وراءه ضجيجاً داخلياً عميقاً يتبدى على الوجوه الفتية والكهلة على حد سواء كحكمة رصينة أبدية..
شمس هذه البلاد لا تسمح لليأس أن يستقر في العظام، ولذلك فإنّ شعوب الشمس لا تموت.