استنساخ هابيل!
كفاح سعيد كفاح سعيد

استنساخ هابيل!

في سياق الإجابة على أسئلة الحاضر، وخصوصاً ما يتعلق بتفشي ظاهرة التطرف، وفي السؤال عن أسبابها، يعيد البعض ذلك إلى أنه انعكاس لـ«تراثنا» و«ثقافتنا» وعليه وحسب هذا الرأي فإن مشاهد القتل المجاني والسبي، الجزية، والسرقة هي موروثات تاريخية، وبالتالي نحن أمام «ظاهرة طبيعية»  نابعة من واقعنا....كذا؟؟!

لاشك أن هذا التعميم الأعمى، وهذه المعالجة القاصرة لمسألة شائكة وحيوية تتمثل في طريقة قراءة التراث عند البعض هو تشويه ممنهج، واستثمار لا أخلاقي في عذابات الإنسان وسؤاله المشروع عن أسباب ما يراه من مظاهر بربرية، وتقديم إجابات مشوهة وجزئية وخاطئة  تشرعن هذا التلوث في الوعي وبالتالي تساهم في إعادة إنتاج المظاهر ذاتها، ولاشك أيضاً أن هذه الظواهر لم تهبط من السماء علينا؟!

في العمق

الخطوة الأولى نحو الإرتداد إلى ما قبل النزعة الإنسانية، و نحو الانحطاط والتوحش تبدأ مع دفع الفرد إلى الإنطواء على الذات و الانزلاق إلى مستنقع الفردانية، في دفعه إلى البحث عن «الحل» الفردي  للمشكلة، في الوقت الذي يكون هذا الفرد بأمس الحاجة إلى الآخر، وفي الوقت الذي تكون المشكلة عامة وتمس الجميع، عندما تغيب حقيقة كون الإنسان جزءاً من كل، و كونه عنصراً في منظومة، عاجزاً بالضرورة عن تأمين حاجاته بشكل حقيقي دون التواصل والتكامل مع المحيط الاجتماعي، عندها بالضبط تبدأ مأساة الإنسان، يبدأ اغترابه، ويبدأ استلابه.. وفي قراءة علمية وهادئة يتبين بوضوح أن هذه النزعة تفشت مع سيادة ثقافة الاستهلاك في بلدان الشرق عموماً ومنها سورية، وازدادت طرداً مع سيادة هذه الثقافة، حيث تتماوت بالتدريج قضية الانتماء إلى الجماعة - شعباً أو دولة أو حزباً - وحتى إلى الوعاء الجغرافي الذي يؤطرها أي الوطن..

في دولة «الغنيمة» وهي التعبير الدقيق عن نموذج دولة الرأسمالية الطرفية كما نظن، حيث جهاز الدولة مفرخة لإنتاج الفساد، وقوننته عبر اللبرلة، سادت ثقافة «اللهم أسألك نفسي».. و«أسألك نفسي» هذه في دول يغيب فيها القانون تستوجب التسبيح بحمد النظام والتودد العلني الكاذب له، بالترافق مع النقمة عليه في قرارة النفس، وتنتج رد فعل غير عقلاني إذا سنحت الفرصة، والاستجابة الغريزية لكل من يزعم  «حماية» هذه الـ «أنا» القلقة، كلما غاب الدور الواقعي للدولة، وكلما كانت عاجزة عن القيام بواجبها لمصلحة انتماءات أخرى ما قبل وطنية.       

«الحضارة» في خدمة التوحش!

في ظروف اليوم يتم توظيف آخر منجزات العلم في مجال الاتصالات، ونقل المعلومات وفي تعميم هذه القراءة التعميمية المبتذلة للتراث، فما تبثه وسائل الإعلام من مشاهد، وما تركز عليه من أخبار وما تستخدمه من مصطلحات، وما تروجه من مفاهيم ومقولات، وما تستخدمه من تقنيات وأدوات تأثير  تحاكي الحواس المتعددة للمتلقي بحيث تصبح درجة التأثير في أعلى مستوياتها، يتم توظيفها حتى تصنّع هذه النظرة إلى التراث، تشير المصادر الغربية إلى أن هناك 1500 جريدة و110 مجلة و9000 محطة راديو و1500 محطة تلفزيون و2400 ناشر هي ملك لست شركات فقط، تتحكم بالخبر وصياغته، والصورة المرافقة..ورغم كل بروباغندا «الأنسنة» هل بقي غبيٌّ على وجه البسيطة لا يدرك معنى ودلالات هذا الاحتكار الغربي للإعلام، هذا الاسئثار بالمعلومة والخبر والصورة، هذا الاستغلال اللا أخلاقي لآخر ما أبدعه العقل البشري؟ أليس من الطبيعي أن يتساءل أي مشاهد عاقل: في أي فلك يدور ذاك القمر الصناعي الذي يرصد كل هذا الدم، ويحرص على إتحافنا بكل هذه الهمجية صباح مساء، ليجعل من موت البشر شيئاً مألوفاً؟

تشير الوقائع أن وسائل إعلام مختلفة في مختلف مناطق العالم وخصوصاً في مناطق التوتر أصبحت حتى في متناول تجار المخدرات والسلاح و«القوادين» العصريين (تجّار الرقيق الأبيض)، وأمراء العشائر، والقبائل، والطوائف والمذاهب وشيوخ التكايا.. عندما يصعد ذئب إلى المنبر من الطبيعي أن يبرر نهش الأجساد، وعندما تطل أفعى من الشاشة لاشك أنها ستبث سموماً، وعندما يحتل جاهل شاشة ما، من العبث أن ننتظر منه غير الشعوذة.. فمن الطبيعي أن يعمل كل هؤلاء على تغييب الجوانب المضيئة في التراث، وبالأخص التراث الشعبي، وهي الأبرز والأكثر حضوراً على امتداد التاريخ، وهي القائمة وبالملموس على النزعة الإنسانية والروح الجماعية.  

الاستنساخ!

الأخطر من تشويه التراث على أهميته هو توظيف هذا التشويه لتبرير حمام الدم الحالي، وقولبة الإنسان المعاصر إما إلى نموذج إخوة يوسف، أو إلى «تنابلة»، أي إلى مجرد كائن كسول يائس مهزوم محبط لا إرادة له بحيث تصبح السيادة للنموذج الأول اي النموذج «الهابيلي» المستنسخ في مختبرات الحرب البسيكترونية، وفي رحم العلاقات الاقتصادية - الاجتماعية السائدة.

جهاز مناعة طبيعي؟

ليست المرة الأولى في التاريخ أن تعم هذه الفوضى، وليست المرة الأولى التي يحاول من خلالها مالكو الثروة تشويه التاريخ والعبث بالجغرافيا، حرصاً على مصالحهم الضيقة، رغم ما يستوجب ذلك من نزف الدماء، ولكن بالمقابل ليست المرة الأولى التي تؤكد الشعوب أنها تمتلك جهازاً مناعياً يستمد قوة الصد من الموروث الشعبي الإنساني المغيّب إعلامياً، قادر على لجم المشروع ومنعه من وصوله إلى نهاياته، فرغم المأساة الراهنة عجز كل الأفاقين والمعتوهين والمرضى النفسيين وتجار الحروب في كل المواقع عن الوصول إلى هدفهم في إثارة الحروب الأهلية حتى الآن،  وما زال الإنسان يقاوم، وطالما هو كذلك فهو ليس مهزوماً.