رحيل آسيا جبار وأندريه برينك في اليوم نفسه
اسمان كبيران رحلا عن عالم الأدب في يوم واحد: الكاتبة الجزائرية - الفرنسية آسيا جبار، والكاتب الجنوب أفريقي أندريه برينك. غيابان «ماديان» لصوتين، عرف كل واحد منهما أن يحمل عبر أدبه صوت «أمة» بأكلمها، وأن يحفر عميقا في وعي أجيال متلاحقة، لدرجة أنهما كانا يشكلان ـــ كلّ على حدة بالطبع ـــ حالة «ثقافية» إذا جاز القول. وربما ما يجمعهما أيضا، أن اسميهما كانا يترددان في السنوات الأخيرة كمرشحين لجائزة نوبل للآداب.
جبار
بدون شك، تعتبر آسيا جبار واحدة من أكبر الأصوات النسائية الأدبية الحديثة، ووفق ما كان يطلق عليها هي واحدة من الوجوه الكبيرة لما عُرف باسم «حركة الانعتاق للمرأة المسلمة»، (تسمية «إكزوتيكية» فرنسية لا تشي إلا بهذه النظرة التي ينظر من خلالها الغرب إلينا) كما أنها من أكثر اللواتي دافعن عن مفهوم «حوار الثقافات».
في أي حال، ولفترة طويلة مضت، بقيت آسيا جبار تعدّ أكبر كاتبة «مغاربية باللغة الفرنسية»، أي لم تكن واحدة من «المجتمع الأدبي الفرنسي»، حتى وإن عاشت هناك ودرست في جامعاتها ونشرت كتبها هناك. قيل الكثير عن تاريخ هذا الأدب وعن هذه الحالة «المزدوجة» إن صح التعبير، لكن انتخابها في «الأكاديمية الفرنسية» (التي تُعرف بـ «مجمع الخالدين») قد يكون أتاح لها «اعترافا» رسميا أوسع، وهو اعتراف أتى متأخرا، إذ سبقت الأوساط العالمية بالاعتراف بجبار قبل فرنسا، وما الدليل البسيط سوى انتخابها العام 1999، في «الأكاديمية الملكية للغة الفرنسية وآدابها» في بلجيكا، ومن ثم منحها «جائزة السلام» الألمانية (عام 2000) التي تعدّ من أكبر الجوائز الأدبية في المانيا.
من هنا قد نفهم لِمَ احتفت بعض الأوساط الفرنسية الثقافية بانتخاب جبار عضوا في «الأكاديمية الفرنسية» (عام 2005) بهذه الطريقة الاحتفائية (والاحتفالية) التي وجدناها يومها. إذ سال الكثير من الحبر في الصحف، كما الكثير من الكلام في نشرات الأخبار. بالتأكيد ليست لأنها امرأة، إذ سبقتها إليها ثلاث أخريات. وبالطبع ليس لأنها فرنكوفونية، إذ نجد العديد من الفرنكوفونيين فيها، كان أبرزهم الرئيس السنغالي الراحل الشاعر ليوبولد سيدار سنغور والكاتب الصيني فرنسوا تشينغ وغيرهما الكثير. لعل السبب الرئيسي في هذا الاحتفاء هو أن آسيا جبار هي أول عربية أفسحت لها مجالاً تحت قبة هذا الصرح الثقافي الضخم، (انتخب أمين معلوف بعدها بسنوات).
لو تحدّثنا بشكل أدبي صرف لوجدنا أن الكاتبة تستحق هذا التكريم، لكن لو قرأنا الحدث من زاوية أخرى، لوجدنا بين ثنايا ذلك، تلك الحالة السياسية الفرنسية التي ضخمت هذا الأمر، لأنه برغم كل شيء نجد أن فرنسا لم تقرأ أدب جبار بشكل كبير، من هنا قول الكاتبة: «إنني أشعر بكثير من الوحدة في هذا البلد، على الرغم من أن كتبي تُقرأ بكثرة في جميع أنحاء العالم».
ثمة سؤال طرح نفسه يومها: هل حاولت «الأكاديمية الفرنسية» أن تعوّض ولو قليلاً، عمّا لم تفعله السياسة؟ لو عدنا إلى تلك السنة، وإلى التظاهرات وأعمال العنف التي شهدتها فرنسا، لوجدنا أن «وزير الداخلية ساركوزي» أرجع السبب إلى عدم إفساح المجال أمام المهاجرين في الاندماج الاجتماعي بشكل حقيقي. من هنا، بنى خطابه للترشيح الرئاسي على هذه الفكرة. بمعنى آخر، عادت فرنسا لتلتفت إلى ماضيها الكولونيالي، وكأنها تحاول أن تجد وسيلة لغسل أيديها من هذا الإثم الذي ارتكبته.
كيف نفهم حدث آسيا جبار وفق هذا المفهوم؟ لعل الجواب الأوضح في كون الكاتبة تبوأت الكرسي الذي كان يشغله قبلها جورج فيديل الذي كان قانونياً كبيراً ومن أبرز الذين نظّروا إلى أوروبا الجديدة. وما القوانين الأوروبية الراهنة إلاّ بعض من مفاهيمه.
لكن من جانب آخر، لا يمكن البتة عدم النظر إلى الجانب الأدبي الكبير الذي بنته في رواياتها وكتبها ومسرحياتها ودواوينها الشعرية، وإن كانت غائبة عند القارئ العربي، الذي يعرف اسمها، لكن لا يعرف حقا أدبها، إذ لم يترجم لها الكثير، وعلى حد علمي لا أذكر سوى كتاب واحد لها بالعربية. من هنا يبقى على قارئ العربية فقط أن يكتشفها وأن يكتشف روايات مثل «الحب، الفانتازيا» (1985) و «الظل السلطان» (1987) وهما روايتان تحملان ـــ ربما ـــ كل سمات مشروعها الفكري القائم على الديموقراطية وعلى حقوق المرأة وحوار الحضارات.
هذه المرحلة من الروايات جاءت بعد أن عادت من الجزائر لتستقر في فرنسا نهائيا عام 1980، إذ رفضت مشروع «التعريب» الذي أقرته الحكومة الجزائرية بالقوة، على الرغم من أنها لم تتوقف عن القول إنها تشعر «بالجرح الكبير» الذي تركه الاستعمار في مسقط رأسها، لكن ذلك لا يمنعها من التعلق بلغة «موليير».
هذا التوازي بين الرحلة العامة والخاصة، نجده يقع في قلب كتابها الأخير «في لا مكان في منزل والدي» (2007) الذي أتى على شكل سيرة ذاتية، لكنه أيضا حجيج في الذاكرة الماضية، ذاكرة بلادها كما ذاكرتها الشخصية، لنجد في النهاية هذا المسار المتلازم بين العام والخاص.
أندريه برينك
مسار آخر متلازم بين العام والخاص، نجده عند أندريه برينك، الذي عرف كيف يصوغ رؤية حقيقية لمجتمع جنوب أفريقيا خلال سنوات التمييز العنصري. فلو حاولنا فعلا البحث عن رواية تختصر تلك التجربة التي عاشتها تلك البلاد لما تردد أحد في اختيار رواية «فصل أبيض وجاف» (1979) الذي تروي فيها عبر تجربته الشخصية تجربة بلاده، وربما يكفيه فخرا أنه أول كاتب «أفريقاني» (أفريقي أبيض) تعرض لمقص الرقيب ومنعت كتبه، لكن «لسوء حظه» كان من الصعب أن يحظى بـ «جائزة نوبل»، لا لشيء بل لأن اثنين من زملائه حصلا عليها في فترة متقاربة هما نادين غورديمير و ج. أم. كوتزي.
ولد برينك عام 1935، وقد كتب باللغتين الإنكليزية والأفريقانية (لغة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا)، وكان عضوا في مجموعة «داي سيسيغر»، وهي حركة أدبية وقفت في وجه سياسة التمييز العنصري بدءا من ستينيات القرن الماضي، ومن بينها غورديمير وكوتزي وبرايتن برايتنباخ، وهذا الأخير كان أكثرهم «سياسة»، إذ تعرض للسجن مرات عدة.
وعلى الرغم من نشاطه السياسي، إلا أن كتابه «عند أحلك سواد الليل»، الذي تعرض للرقابة ـــ ليشكل بذلك سابقة ـــ لم يكن بسبب السياسة، بل اعتبر الكتاب «إباحيا»، من هنا كان يختار أحيانا بعض العناوين التي أثارت المجتمع التقليدي المحافظ في بلاده.
لكن، وبعيدا عن هذا الخط أو «التحريض» جاء كتابه «فصل أبيض وجاف» ليجعل له هذه المكانة الأدبية. بالتأكيد منع الكتاب قبل صدوره في جنوب أفريقيا، ليصدر لاحقا في لندن. وهو يروي فيه عن شخص جنوب أفريقي يقرر أن يجري تحقيقا شخصياً ليعرف مصير صديقيه الأسودين (أب وابنه) الحقيقي، اللذين وجدا ميتين لاحتجاجهما على سياسة التمييز العنصري.
تحقيق، طال في العمق، كل العنصرية التي ارتكزت عليها حكومات بلاده، طال كل التركيبة السياسية والثقافية والاجتماعية. من هنا، لم يكن أحد يستطيع أن يقبل بصدور هذا الكتاب، مثلما أثار أحد كتبه الأخيرة «انزياحاتي» الذي صدر العام 2009، بعض التململ عند حكام ما بعد مرحلة التمييز العنصري، إذ اعتبر برينك خلال جردة للسنين الـ15 التي أعقبت سقوط النظام الأسبق، أن الحرية «الغالية التي حصلنا عليها لم تطرد جميع الشياطين من بلادنا». ويضيف في مكان آخر: «أعتقد أن ذلك كله يتأتى من التناقض بين الأمل الذي شعرنا به بعد مجيء مانديلا إلى السلطة وخيبة الأمل الرهيبة التي أعقبت رحيله»... «لقد عشنا مع الفساد في جنوب أفريقيا لفترة طويلة، منذ زمن التمييز العنصري. إلا أنه اليوم منتشر في جميع الأرجاء، خاصة في الأماكن التي لم نكن نتوقع فيها ذلك. في الأوساط الثقافية، الدينية. في كل مكان...»
المصدر: السفير