رَجُلٌ اسمُهُ غَسَّانْ كَنَفْاني

رَجُلٌ اسمُهُ غَسَّانْ كَنَفْاني

صباح يوم السبت 18 تموز عام 1972 كان غسان كنفاني يشرب القهوة مع أفراد أسرته وآمنة ياسين، البطلة الحقيقية لرواية أم سعد التي كتبها كنفاني سنة 1969. وما هي إلا دقيقتان بعد خروجه متوجهاً إلى مكتبه، حتى دوّى انفجار مريع هزّ أركان البيت.

تَصِفُ أم سعد تلك الدقائق المرعبة قائلة: كنتُ إلى جانب النافذة المطلة على الحديقة، فجأة دوّى انفجار رهيب، تحطم زجاج النوافذ وتناثرت شظاياه.. هرولت دون وعي نحو الشارع. كان المشهد يدمي القلب، فقد استحالت سيارة غسان كنفاني الصغيرة إلى أشلاء متناثرة. بحثت عنه فوجدته بين ألسنة النيران مفتوح العينين، تفحصته، قلبه كان ينبضُ، والوجه وحده بقي سليماً تلوح من قسماته ابتسامة حزينة.
وفي مساء يوم الفاجعة قالت ابنته ليلى لأمها: «ماما، لم تكن تلك غلطة بابا، الإسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته».
فمن هذا الفلسطيني الذي مزقت إسرائيل جسده بالمتفجرات؟
وُلِد غسان كنفاني في عكَّا سنة 1936، ودخل إلى المدرسة في يافا، قطعت الأحداث التي جرت في فلسطين تلك الأيام سير الحياة الطبيعي لأسرته. ففي أواخر عام 1947 بدأت الاشتباكات بين أهل فلسطين واليهود المدعومين من الحركة الصهيونية العالمية. وكان أول هذه الاشتباكات في حيّ المنشية في يافا حيث سكنت أسرته. تعطلت المدارس، وانتقلت عائلته إلى عكّا. المدينة التي خُصصت للسُكان العرب حسب خطة تقسيم الأمم المتحدة.
ذكرى لا تنتهي..
غير أن عكّا، أسوة بالكثير من المدن والقرى الفلسطينية خضعت لاحتلال القوات الإسرائيلية، وهُجِّر سكانها بالقوة الجسدية والنفسية. أصيب عرب فلسطين بالذعر الشديد بعد المجزرة، فقد ذبح مائتين وأربعة وخمسين امرأة وطفلاً ورجلاً بوحشية وعن سابق عمدٍ، ورميت جثث الكثير منهم في إحدى الآبار.
وصفتْ السلطات الإسرائيلية الرسمية تلك المجزرة بالحادث. بينما كان فيه قرويّو دير ياسين الأسرى الذين بقوا أحياء، يُستعرضون عراةً أمام سكان الأحياء اليهودية في القدس لكي يبصقوا عليهم. فيما راحت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت تجول القرى العربية معلنة: إن لم تغادروا بيوتكم، فسوف يكون مصيركم كمصير أهل دير ياسين. غادرت عائلته عكا وكان ثمانمائة ألف عربي قد فروّا من الإرهاب الإسرائيلي في هجرة جماعية، يتقدمهم الأطفال والنساء، وبقي البعض من الرجال كي يحرسوا قراهم وبلداتهم.
حمل الجميع معهم مفاتيح بيوتهم واتجهوا صوب لبنان حيث سكنوا قريباً من الحدود كي يكونوا بين أوائل العائدين إلى منازلهم بعد انتهاء القتال.
كانت فلسطين هاجس كنفاني الدائم  حتى استشهاده بعيداً عنها. كانت رحلة الهجرة عن أرض الوطن من أهم الأحداث التي أثرت في حياته الأدبية، ورواها بعد عشر سنوات في قصة من أجمل قصصه «أرض البرتقال الحزين». مكثت عائلة كنفاني حوالي الشهر في جنوب لبنان. ولمّا وجدوا أن الأمر قد يطول، نزلت إلى الشام من أجل العمل.
أحب كنفاني الكلمة المكتوبة، بدأ يكتبُ وهو في الصفوف التكميلية، وما لبث أن اشترك في برنامج إذاعي أعدّتهُ إذاعة دمشق بعنوان «الطلبة» فكتب المسرحيات الموجهة إلى الطلاب وقدّمها أحياناً وأذاعها أحياناً أخرى.
أقيم معرض دمشق الدولي سنة 1955، وكان معظم ما عُرض في جناح فلسطين من جهد شاب في مقتبل العمر، خرائط لفلسطين، لوحات فنية، تعريفات جغرافية، ونِسَب الأراضي التي حازها العرب وتلك التي حازها الصهاينة، وجداول بارتفاع معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وغير ذلك. كان ذلك الشاب غسان كنفاني.
«ارسم منظراً مرعباً».
في العام نفسه نال شهادة الثانوية العامة. ثم عيّن مُدرساً للرسم في مدينة دمشق. كان يعمل لساعة متأخرة من الليل، يرسم ويلون ويكتب ويخطط ويصحح رسومات الطلاب ويخلق مع الجميع ساحة حميمة جعلته، خلال وقت قصير، الشخصية المحببة والصديق المفضل والمميز لدى الجميع. وحين انتقل للتدريس في إعدادية صفد في باب الجابية في دمشق القديمة، دخل قاعة الصف وتوجه إلى اللوح، وكتب بخط واضح «ارسم منظراً مرعباً».
اجتاحت الطلاب مشاعر متفاوتة، رسمَ أحدهم بحراً متلاطم الأمواج وآخر رسمَ دبابة، وثالث وجه وحش بأنياب حادة، وهكذا توالت الرسومات على طاولة كنفاني الذي تابع كل رسم بانتباه، وأخذ يشطب ويضيف على ذيله عبارة مقتضبة: «مخيف ولكن غير مُرعب». وحين انتهى الجميع من تقديم أعمالهم توجه إلى اللوح و رسم دفتراً مفتوحاً لوّنه بالأحمر وكتب تحته بخط عريض:  «دفتر الإعاشة»، ذلك الدفتر المقيت الذي بموجبه يحصل اللاجئ على قوت يومه.
خلال ذلك لم يُنحّ شعور الاستسلام السائد لدى الفلسطيني فقط بل رسم صورة جديدة، هي ملامح الفدائي، والتي لم تكن واضحة المعالم بعد.عاش غسان كنفاني مأساة شعبه يوماً بيوم، وكان من خلال احتكاكه اليومي مع طلاب المدارس في المخيمات، يعايش الكثير من معاناتهم، وحين بدأ كتابة القصة، كانت مستوحاةً من صميم واقعهم، فعبرت عن همومهم بصدق شديد.
ومع بداية العام الدراسي 1956، عُينَّ مدرساً في الكويت، فشهدت إقباله الشديد على القراءة، وشحنت حياته الفكرية بطاقة عظيمة، كان يقرأ بنهم ويستوعب بطريقة مدهشة، وهو ما يؤكد ولعه بالكلمة المكتوبة وحبه لها، حيث ترك نتاجاً أدبياً ضخماً إضافةً إلى كتاباته اليومية في الصحافة، وكانت فلسطين هاجسه في كل ما كتب.
 اكتشف كنفاني مرضه بالسُّكري في الكويت وحين لازم المستشفى مرة، انبثقت في مخيلته قصة هامة، هي «موت سرير رقم 12»، ثم نال الجائزة الأولى في مسابقة جرت في الكويت على مستوى العالم العربي لكتَّاب القصة عن قصته «القميص المسروق»، وقد اكتشف ولعه بكتابة القصة، مع كونه كتب الشعر ومارس الرسم. وهذا ما ذكره في حكاية «القنديل الصغير» التي كتبها ورسم أبطالها وأهداها إلى لميس حسين نجم التي استشهدت معه إذ قال لها: «إنني كاتبُ قصة وسوف أكتب قصة تكبر معك كلما كبرت».
انتقل كنفاني إلى بيروت، وانغمس في عمله، وكان قد ترسّخ في حقلي الكتابة والصحافة، وأصبح رئيس تحرير جريدة المحّرر اليومية، التي أصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان واتسع انتشارها،  وعمل في مجلة فلسطين الأسبوعية.  سنة 1965 دُعي غسان كنفاني لزيارة الصين والهند لشرح المسألة الفلسطينية في هذين  البلدين، وشارك في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا.
«الهدف»
في خريف عام 1967 عمل كنفاني ضمن هيئة تحرير جريدة الأنوار. لكنه قرّر سنة 1969 أن يتركها ليُصدر المجلّة السياسية الأسبوعية «الهدف»، مع أن هذا القرار عَنى انخفاضاً في الدّخل، لكنه لم يعمل لاعتبارات ماديّة، فقد كان الإلهام الذي يدفعه للكتابة والعمل المتواصل، هو الشعب الرازح في بؤس المخيمات.
في تموز سنة 1969 صدر العدد الأول من مجلة الهدف، التي تحولت في السنتين اللاحقتين إلى واحدة من أفضل المجلاّت السياسية الأسبوعية في العالم العربي، واقُتبس الكثير من كلماتها وترُجم عددٌ كبير من مقالاتها و افتتاحياتها إلى لغاتٍ أُخرى. واستمرّ في الكتابة دون انقطاع، مقدماً لمجلة الهدف الكثير من إسهاماته، وكان إلى جانب الكتابة يرسم كثيراً.
سُجن كنفاني عام 1971 بسبب مقال في مجلة الهدف. وكانت إحدى الصحفيات العاملات في مجلة الهدف قد كتبت هذا المقال ونشرته ولم يكن غسان كنفاني في بيروت آنذاك لكنه أعلن أنه يتحمل مسؤولية كل ما يُكتب في المجلة!
لقد سار إنتاج غسان كنفاني الأدبي جنباً إلى جنب مع نشاطه الصحفي والسياسي، وكان قبل موته بزمن طويل يُعتبر من أفضل الكتاب العرب والفلسطينّيين. وكان في العادة يبني القصة أو الرواية أو المسرحية في ذهنه، ثمَّ يكتبها كلها في زمن قصير، مضيفاً إليها تصحيحات قليلة فيما بعد. وكانت جميع مخطوطاته مكتوبة باليد. وقد قتلوه حين كان لا يزال ينمو ويكبر، وكان خطره على  إسرائيل أكبر من أن يتحملوا وجوده.

المادة كاملةّ منشورة على موقع قاسيون