حدثنا عن العدالة يا سقراط
بين التماثيل النصفية التي وصلتنا من عهد أثينا القديمة تمثال شهير، لرأس ضخم، في وجهه جهامة، صفحة الوجه كبيرة مستديرة كأنها الشمس، عينان عميقتان تنظران بفراسة إلى الأفق البعيد، أنف كبير عريض، شفتان غليظتان. من يتمعن في رأس الرجل يحسبه عتالاً يعمل في ساحة بازار المدينة، أو حجّاراً في مقلع حجر. وحين تمعن النظر وتتفحصه بدقة أكبر، ترى في التمثال دماثة ولطافة إنسانية قلَّ نظيرها، هذه السمات الشخصية الفريدة هي مكونات رأس أعظم فيلسوف عرفته البشرية، إنه سقراط ابن حجَّار في مقلع حجر. ومن أبيه ورث تلك الرأس الفذة.
ولد سقراط في أثينا سنة 470 قبل الميلاد. وإذا صدقنا ما يرويه أفلاطون فإن طريق سقراط قد حُدد من قبل آلهة دلفي. فقد ذهب صديق سقراط المدعو قيريفون إلى العرافة بيتي في معبدها يسألها عما إذا كان هناك رجل أحكم من سقراط فأجابته: إنه ما من إنسان أحكم منه. وفسَّر سقراط الجواب التفسير التالي: يعتقد الناس أنهم يعرفون كل شيء، في حين أنهم لا يعرفون شيئاً، فأنا لا أعرف سوى شيء واحد هو أنني لا أعرف شيئاً.
أسئلة في الحكمة..
من الصعب أن نعرف كيف عاش سقراط ، الذي يمكننا تسميته بحق أحكم وأعدل وأفضل جميع الرجال الذين قد نتعرف عليهم في حياتنا. فهو لم يعمل في حياته قط، ولم يهتم بالغد، وكان كسولاً في نظر زوجته، لا يصلح لشيء، ولكنها أحبت الحديث معه، ولم تقو على رؤيته يموت عندما تجرع كأس السم، مع أنه تجاوز السبعين من عمره. الظاهر أن سقراط في سعيه نحو العدالة اتجه إلى سبر غور الروح الإنسانية، فكان يسأل بهدوء ما هي العدالة في نظركم؟ وماذا تعنون بهذه الكلمة المجردة التي تحلون بها، بمثل هذه السهولة، مشاكل الحياة والموت؟ وماذا تعنون بكلمة الشرف والفضيلة والأخلاق الوطنية؟
لقد عانى البعض من طريقة سقراط في السؤال والبحث التي تحتاج إلى تعريف وتحديد محكم صحيح وتفكير جليّ وتحليل واضح. وقد اعترض هذا البعض على طريقته هذه وقالوا إنه يسال أكثر مما يُجيب ويترك عقول الرجال أكثر اضطراباً مما كانت عليه قبل المحاورة والنقاش أو الحديث ومع ذلك فقد قدم إلى الفلسفة جوابين ثابتين لسؤالين تناولا مشكلتين من أكثر مشاكلنا المعاصرة تعقيداً: ما هو معنى القيم والأخلاق والفضيلة الإنسانية؟ وما هو أفضل شكل للدولة التي تحكم الناس؟
الأوعية النحاسية..
إن سقراط يجد طريقة سهلة لتدمير التعاريف الشائعة في الحياة ويسأل ماذا تقصدون بكلمة العدالة؟ ولأنه يعلم أن لا شيء أشد في فحص الصفاء العقلي من محاولة تعريف الأشياء وتحديد المقصود منها، كان يمعن في طرح الأسئلة. وكثيراً ما كان أحد الحاضرين الأقل صبراً ينفجر صارخاً: ما هذه السخافة يا سقراط؟ وما بالكم أيها الشباب تسقطون جميعاً أمامه في الامتحان الواحد تلو الآخر بهذه الطريقة الماكرة؟ لأني أقول إنك إذا كنت تريد أن تعرف ما هي العدالة يجب عليك أن تًجيب لا أن تسأل ولا تفخر، لأنك تدحض ما يقوله الآخرون لأن الكثير من الناس يقدرون على السؤال ولكنهم لا يقوون على الجواب.
ولكن سقراط يسأل من جديد: أليس من السخف أن يقوم على حكم الشعب الخطباء الذين يضيعون وقتهم في خطبهم الطويلة كالأوعية النحاسية التي إذا دقت وقرعت تستمر في الدق والقرع إلى أن تضع يدك عليها وتوقف دقها؟ لا جدال في أن إدارة الدولة مسألة تحتاج إلى أفكار أعظم العقول وأحسنها إذ كيف يمكن إنقاذ مجتمع أو جعله قوياً إلا إذا تولى أمر هذا المجتمع أحكم رجاله وأعقلهم؟