«غنّوجة» مصر ولبنان
في أربعين صباح، يستعيد المفكّر والمؤرّخ فكتور سحاب محطّات بارز وموثّقة من مسيرتها، بجانب حوار مطوّل أجراه معها في العام 2004، قبل عقد كامل من رحيلها.
الساعة الثالثة فجر يوم الأربعاء، 26 تشرين الثاني 2014، فارقت جانيت جورج الخوري فغالي الحياة.
ماتت الشحرورة، فصحا كلّ لبنان والعالم العربي، على الخبر المؤلم، على الرغم من أنّ خبر وفاة "غنّوجة" الغناء العربي كان قد تردّد عدّة مرات من قبل، من دون أن يكون صحيحاً، لأنَّ العمر تقدَّم بصباح إلى مقربة من التسعين، أو أكثر أو أقل، وهو عمر دفع الكثيرين إلى توقُّع الوفاة في أيّ لحظة ولو لم يكن خبراً صحيحاً. لكنَّه كان تلك المرة صحيحاً: ماتت صباح.
لم يجادل أحد في يوم وفاتها، لكنّ الجدل تناول يوم ولادتها في بدادون، تلك القرية الوادعة الرابضة على تلال مشرفة على البحر، من منطقة جبلية غير مرتفعة، إلى الجنوب الشرقي من بيروت. قيل إن ولادتها كانت في 11 تشرين الثاني سنة 1927، بل هي كانت تقول ذلك. لكن معلومات أخرى جعلت الولادة، في نظري، سنة 1921، أي قبل ست سنوات من السنة المعترَف بها.
ففي سنة 1996، حين كنت منصرفاً إلى تأليف كتاب "وديع الصافي" (دار "كلمات"، بيروت، 1996) قال لي مطربنا الراحل الكبير، في روايته لرحلته الأولى إلى القاهرة، سنة 1944، إنّها السنة التي شهدت أيضاً رحيل نور الهدى وصباح، إلى عاصمة السينما العربية. كان عمره آنذاك 23 سنة، فهو من مواليد 1 تشرين الثاني 1921.
سألته يومئذ عن صباح، فقال لي إنها من عمره، مولودة في السنة ذاتها، وقد علم هذا في سنة التقائهما في القاهرة. إذاً كانت صباح في تلك السنة، في الثالثة والعشرين من العمر. وهذا منطقي، أكثر إقناعاً من القول إنها لعبت دور البطولة في فيلم: "القلب له واحد" سنة 1944، وهي في السابعة عشرة.
بل إنّ صباح نفسها رجّحت، من دون قصد، ولادتها سنة 1921، حين قالت لي في المقابلة معها سنة 2004، في فندق كومفورت، إن والدتها توفيت في الخمسينيّات، حين كان عمر صباح 36 عاماً. فلو كانت وفاة الوالدة في أواخر الخمسينيّات، فرضاً سنة 1957، لصحّ ما قاله وديع الصافي، بتأكيد من صباح نفسها. أي أنّ صباح وُلدت بعد وديع الصافي بعشرة أيام فقط.
وتكون صباح قد عُمِّرت، لو صحّ هذا، 93 سنة، عاشتها على طولها، من دون أن تفقد يوماً حب الحياة والإقبال عليها.
ماذا فعلت في القاهرة؟
يحصي جلال الشرقاوي، في أطروحته عن السينما المصرية، منذ نشوئها، حتى سنة 1960، أن لصباح 46 فيلماً. وقد بدأت منذ أول أفلامها: "القلب له واحد"، بالتعاون مع كبار الملحنين المصريين، ولم يغب عن قائمة أغنياتها في الأفلام المصرية أي اسم من أسماء الكبار في الموسيقى يومذاك: ففي هذه الأفلام، لحّن لها محمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، ومحمود الشريف، ومنير مراد، والسيد مكاوي.
وقد واكبت مسيرة السينما الغنائيّة العربيّة في عزّ أيّام ازدهارها، مع هؤلاء الملحّنين، وعدد من كبار المطربين الذين شاركوها في أفلامها. وكانت من كبار المشاركين في هذا المجهود الفنّي التاريخي، إذ إنّها تفوّقت حتى على مثالها الأعلى، ليلى مراد، بعدد أفلامها.
يُذكر أن الأغنية السينمائيّة المصريّة عموماً، كانت إسهاماً كبيراً في تطوير الغناء المدني العربي الذي صنعته المدرسة الموسيقيّة المصريّة، منذ أن بدأ مسيرة تطويرها الشيخ السيد درويش، في مسرحياته الغنائية، وتابع هذه المسيرة محمد عبد الوهاب، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، والآخرون، في السينما الغنائية، التي حلّت محلّ المسرح، ما حفز الموسيقيين على سلوك مسار التطوير، في الموسيقى والغناء. (راجع كتابنا: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية).
إذاً يمكننا القول إن صباح احتلت مكانة مرموقة في النهضة الموسيقية المدنية العربية، في القاهرة، بلا أدنى شك، ضمن المطربين والمطربات، بأغنيات صنعت جانباً مشرقاً من تاريخ هذه النهضة.
من تراث صباح "المصري"، لا بد من الإشارة إلى أحلى أغنياتها، استناداً إلى الذاكرة والذوق الشخصي، على ما في هذا من احتمال النسيان والنقصان. فقد غنّت من ألحان محمد عبد الوهّاب: "الرقص نغم"، و "أيوه يا لأ"، و "يا ورد يا زرع إيدي"، وغيرها. ومن السنباطي، غنّت: "الليل لنا"، و "يا هواي"، و "يمينك لف". ومن محمد الموجي: "الحلو ليه تقلان قوي"، و "الغاوي نقط بطاقيته". ومن بليغ حمدي: "جاني وطلب السماح"، و "زي العسل"، و "عاشقة وغلبانة"، و "عدّى علي وسلّم"، و "يانا يانا". ومن فريد غصن، اللبناني المتمصر: "أنا ستوتة"، و "ربيع لبنان" (لبنان زانه من الربيع وشاح). ومن محمد فوزي، محاورات واسكتشات جميلة، أشهرها: "جنينة الغرام"، و "استعراض أبطال الغرام"، و "ليه يا ماما"، و "ما اعرفشي ما اعرفشي". ومن الشيخ السيد مكّاوي: "أنا هنا يا ابن الحلال". أما فريد الأطرش فغلبت على ألحانه لها الصفة اللبنانية. وكذلك بعض ألحان محمد عبد الوهّاب.
ماذا فعلت في لبنان؟
لم تنقطع صباح خلال مكوثها الطويل في القاهرة، عن التردّد على لبنان، لكنها في أواخر الخمسينيّات أبدلت الوضع، فصارت في العموم مقيمة في لبنان، وتتردد من وقت لآخر على القاهرة.
وكانت عودتها إلى لبنان أشبه بالعودة إلى الضيعة، وكان لحن فليمون وهبي الرائع، الأغنية التي غنتها في ما بعد "راجعة على ضيعتنا"، هي الأغنية التي ترمز إلى تلك العودة. فقد نشأت صباح على الميجانا والعتابا وأبو الزلف والمعنّى والقصيد والموال الشروقي وأزجال عمّها أسعد الخوري فغالي، شحرور الوادي. فلمّا غادرت القاهرة عائدة إلى لبنان، انتقل جل عملها في الفن، من الإسهام في النهضة الموسيقية العربية المدنية، في القاهرة، إلى الإسهام الكبير في النهضة الموسيقية اللبنانية التي تتصف على الخصوص بتطوير ملامح الغناء الريفي لبلاد الشام. لقد عادت إلى جذورها الأولى.
هكذا عادت صباح "إلى ضيعتها".
كانت المجموعة التاريخية من الموسيقيين اللبنانيين، الأخوان رحباني ووديع الصافي وفيروز وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفليمون وهبي وعفيف رضوان ومحمد محسن والآخرون، قد بدأوا سنة 1957، في أوّل ليال لبنانية في مهرجانات بعلبك، العمل على تطوير موسيقى وغناء الأرياف الشامية.
ولم تكتفِ صباح بأن تكون عموداً أساسياً في هذه الحركة الموسيقية التاريخية، لا سيما في المهرجانات، بل انّها وقفت في مهرجاني "الأنوار"، "موسم العز" سنة 1960، و "أرضنا إلى الأبد" سنة 1964، وقوف الندّ للندّ، أمام عملاق الغناء الريفي وديع الصافي، وبلغت معه القمّة في لحن زكي ناصيف البديع: "يا بلادنا مهما نسينا"، ولم يجارها في هذا أي قامة فنية أخرى. فهي ابنة الريف اللبناني، نشأت على أزجال عمها، وعلى أسلوب الغناء الريفي، فلما ذهبت إلى القاهرة، احتاجت، كما قالت لي، إلى تدريب على يد رياض السنباطي، لتتقن الغناء المدني، في المدرسة المصرية.
وتمكّنت صباح بعد عودتها إلى لبنان من استدراج كبير موسيقيي ومغني العرب، محمد عبد الوهاب، ليلحّن لها مجموعة جميلة من الأغنيات، لكن على الطريقة اللبنانية: "جاري أنا جاري"، و "كرم الهوى"، و "عالضيعة"، و "كل ما بشوفك". كذلك لحّن لها على الأسلوب اللبناني، وأحيانا باللهجة المصرية، الموسيقار فريد الأطرش: "يا دلع"، و "أحبك ياني"، و "آكلك منين يا بطة"، و "حبيبة أمها"، و "حموي يا مشمش"، و "زنوبة"، و "م الموسكي لسوق الحميدية"، و "عالصورة امضي لي". ولحّن الرحابنة لها ولوديع الصافي محاورة: "الله معك يا زنبقة". ولحّن لها زكي ناصيف "أهلا بهالطلة"، و "تسلم يا عسكر لبنان"، و "يا ليلى"، ومحاورتها البديعة مع وديع الصافي: "يا بلادنا مهما نسينا". أما الحصة الكبرى من أغنيات صباح التي اشتهرت وكانت أغنيات الموسم في زمنها، فهي ولا شك ألحان فليمون وهبي: "جينا الدار"، و "راجعة على ضيعتنا"، و "دخل عيونك حاكينا"، و "شب واستحلى"، و "العصفورية"، و "عالندا الندا"، و "فزعانة قلبي أعطيك"، و "فنجان قهوة وسيكارة"، و "قوم تنلعب باصرة"، و "لمين بدي أعطي قلبي"، و "هالقد بحبك هالقد"، و "هيّب ياللي بحبه"، و "يا امي طل من الطاقة"، و "يا طير الزعرورة"، و "يا طير الطاير قل له"، وغيرها.
وكانت قبل إقامتها في القاهرة قد غنّت لملحّن، لا يصح نسيانه، لأنه من مؤسسي الأغنية اللبنانية، نقولا المنّي، صاحب لحني: يا هويدا هويدلك، ويا حلوة سرقت قلبي، وغيرهما.
في الحركتين
وإذا دققنا تدقيقاً منصفاً في الأسماء التي أسهمت في الحركتين التاريخيتين، اللتين طورتا الموسيقى المدنية العربية في القاهرة، والموسيقى الريفية الشاميّة في لبنان، فإنّنا لن نجد غير صباح، التي أسهمت في الحركتين معاً، إسهاماً واسعاً.
نور الهدى، التي لمعت في القاهرة، كانت لها عشرة أفلام في مصر، لحّن لها فيها الكبار: عبد الوهّاب والقصبجي والسنباطي ومحمد فوزي وفريد الأطرش، وغيرهم، لكن إسهامها في الغناء، وفق المدرسة الريفية، اقتصر على عدد من الأغنيات لا يتجاوز عدد أصابع اليد. ولم تشارك أبداً في المهرجانات.
سعاد محمد، المطربة الكبيرة، شاركت في الحركة الأولى في مصر، بفيلمين وعدد كبير من الأغنيات، ولم يكن لها أي إسهام في الحركة الثانية، إذ انّها لم تشارك يوماً في المهرجانات اللبنانية، ولم تغنّ أي لون ريفي.
نجاح سلام، المطربة الكبيرة أيضاً، شاركت في عدد من الأفلام والأغنيات في القاهرة، أما إسهامها في الغناء الريفي في لبنان، فاقتصر على معَنَّى، شاركت فيه بجدارة مع وديع الصافي، هو الأغنية الرائعة "طل القمر ورفيقتي طلت معه"، ثم شاركت وديع الصافي مرّة ثانية في مهرجان "نهر الوفا" سنة 1965 بدلاً من صباح، التي كانت قد اعتذرت في آخر أسبوع، لامتناعها عن المشاركة، بعدما كانت التمارين قد شارفت على نهايتها. أما أغنياتها في لبنان، فيغلب عليها الطابع الموسيقي المدني، لا سيما القصيدة والطقطوقة.
فيروز لم تشارك في الحركة الموسيقية المصرية، وتركز إسهامها الواسع على المهرجانات، غير أنها لم تغنّ الميجانا والعتابا والقرّادي وهذه الألوان، إلا مع وديع الصافي في المغناة الرائعة: "سهرة الحب" سنة 1973.
صباح إذاً تدخل التاريخ من باب أنها المسهم الوحيد، بين كبار المطربين والمطربات، في أعظم وأهمّ حركتي تطوير موسيقي عربيّ في القرن العشرين.
الصوت
امتاز صوت صباح بالجُرس الجلي، الذي لا تكتنفه بحّة ولا ملمس مخملي. بل إن لصوتها رنيناً نقياً وقماشة يستطيع المستمع أن يميزها بسهولة، بين الأصوات الأخرى.
وكانت صباح تمتلك قدرة فائقة على التحكّم بالحجاب الحاجز، العضلة الكبيرة التي تفصل القفص الصدري عن البطن. ولهذه العضلة دور كبير في حسن تنظيم النفَس، لأنها هي التي تشد الرئتين نزولاً وصعوداً في حركتي الشهيق والزفير. ويعرف الخبراء، ما للقدرة على التحكّم بهذه العضلة، من دور في إطالة النفَس، في أثناء الغناء، وفي ضبط الصوت كيلا ينشز. وقد تفوّقت صباح بطول النفَس، لا سيما في أثناء غنائها: الأوف، بفضل هذه المقدرة المتفوّقة.
كذلك امتاز صوت صباح بالقدرة على التغريد، لليونة في حبال الحنجرة لديها. ويعرف المستمع المدقّق، أن لهذا التغريد دوراً في الغناء "البلدي"، على الطريقة التي كان يغرد بها مغنّو هذا اللون، مثل يوسف تاج، وغيره.
واكتسب صوت صباح، من شخصيتها المغناج، ذلك الجاذب الأنثوي الذي كانت تتميّز به على غيرها من المطربات. وليس في إمكاننا أن ننكر، أن هذا كان عنصراً مهماً في حياتها الفنية، وعاملاً في اجتذاب أقطاب السينما والتلحين، إلى هذه الفتاة الجذّابة بشكلها وصوتها معاً.
بقي لنا من صباح تراث وافر من جميل المغنى، الذي شغل الناس سنوات طوالاً، وكان جزءاً من ثقافتهم الفنية والاجتماعية. ولا بد من تصنيف هذا التراث وحفظه ونشره، حتى لا تكون الشحرورة مجرد صفحة جميلة... وانطوت!
المصدر: السفير