دعاة على أبواب الفضائيات
تحفل كثيرٌ من الفضائيات العربية بالعديد من البرامج الحوارية التي تجتذب عدداً لا بأس به من المشاهدين، ويكون ضيوفها محاورين من «نخبة النخبة» السياسية والثقافية العربية، وأما المواضيع التي تطرح فهي على مستويات عالية من الأهمية والحيوية، تبدأ من مناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية في الدول العربية، ولا تنتهي بتناول موضوعات كبرى من قبيل الطائفية والعلمانية وثنائية السلطة والمثقف... وهكذا إلى آخر قائمة مشكلاتنا «الملِّحة والمصيرية».
كثيراً ما تم انتقاد هذه البرامج الحوارية من خلال القول بأنها غير مجدية، ولا تحترم آداب الحوار ومبدأ قبول الآخر، فضلاً عن اتهام بعضها بتغذية الفتنة والنزاعات الفئوية. وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات، فالملاحظ أن أغلب المحاورين يتقمصون عن قصد أو غير قصد شخصية الداعية، إذ قلما نجد «محاوراً» يسعى ليكون طرفاً في حوار، وإنما يأتي إلى الشاشة الصغيرة للتبشير والدعوة للفكرة التي يحملها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، والطائفة التي يعمل لحساب قياداتها، وإذا كان للداعية الديني مواصفات وأسلوب خطاب وحركات إيمائية معروفة، فإن المثير في الأمر أن محاوري ودعاة العلمانية والمواطنة والديمقراطية أصبحوا في غالبهم يتبعون الأساليب نفسها، وهكذا يضع أغلب ضيوف البرامج الحوارية مفهوم الحوار وآليات استعمال العقل جانباً، ويبدؤون بحملة دعوية ودعائية لإقناع المشاهد بوجهة نظرهم، لأنه لا وقت للإنصات والتفكير فيما الحرب على أشدها، ومؤامرات الطرف الآخر تطبخ بسرعة «لسحقنا نحن الذين كنا ولا نزال على حق».
في البرامج الحوارية التي يكون طرفاها مقدم البرنامج وضيفاً واحداً فقط، يمكن أن نلحظ منذ الثانية الأولى في الحلقة كيف يتخيل هذا الضيف أن خصمه السياسي أو الفكري أمامه، ويبدأ في الدفاع عن فكرته ولعب دور طرفي الحوار منفرداًً، أو بمساعدة مقدم البرنامج عند اللزوم، فهو يحفظ خطاب الطرف الآخر عن ظهر قلب، وجاهز للرد على كل كلمة فيه حتى قبل أن تقال، والغريب أن جمهور المشاهدين يعرف بالضبط ما الذي سيقوله هذا الضيف، بل إن المتابعين الدائمين لهذه الحوارات، أصبحوا يعرفون الهدف من كل كلمة تقال، والفكرة وصاحب الفكرة التي تهاجم بمجرد بدء الحوار المفترض. ويستعمل الجميع في هذا النزال المفتوح الأساليب نفسها، إذ إنه على المحاور أن يركز على نقاط الضعف في خطاب الآخر، ويعمل على مهاجمته -أخلاقياً وليس معرفياً- عبر هذه النقاط، أما نقاط الضعف في خطاب المتحدث نفسه، فلا بد أن يعمل على التعمية عليها بالصراخ حيناً، أو بتبريرها بضرورة التوفيق بين الآراء المتناقضة للوصول إلى الحل الذي يرضي الجميع حيناً آخر، وطبعاً لا بد من استثارة العواطف لدى الجمهور المستهدف، ويبقى التخندق في زواريب التاريخ الحصن الأخير الذي يلجأ إليه الجميع عند الضرورة.
هكذا يبقى كل خطاب أسيراً للآخر، وتبقى جميع الخطابات التي تتصارع في الفضاء الإعلامي والثقافي العربي أسيرة النزعة الإلغائية الدعوية اللاعقلانية، وهكذا أيضاً، يسقط خطاب دعاة العقلانية في شرك خطاب دعاة الجاهلية، ويتحول جميع فرسان طاولات الحوار العلني المفضوح إلى باعة في سوق فضاءٍ إعلامي بضاعته أكوام من الثنائيات الفارغة، الإيمان والإلحاد، الوطنية والعمالة، الأسلمة والعلمنة، الموالاة والمعارضة، وأخيراً وليس آخراً منطق الميليشيات ومنطق الدولة، وأما زبائن هذا السوق فهم هذا الجمهور العريض المقهور الذي لم يتح له حتى اليوم أن يسمع حواراً حقيقياً باللغة العربية، حواراً يمثلّهم فعلاً، وينطلق من أحلامهم ومصالحهم وهمومهم الحقيقية.