إفعل عكس ما تقوله أمريكا..!
هل يعلم صنّاع القرار الأمريكي بأننا نكرههم؟ هل هم على دراية بالاتجاه المناهض لسياسات الولايات المتحدة الذي ساد لسنوات في المنطقة؟ أم أن ذلك «التفصيل الهامشي» غاب عنهم و« سقط سهواً »؟!
إن من يملك أضخم أجهزة الاستخبارات في العالم، ويستطيع الوصول لجميع حسابات مستخدمي شبكات الإنترنت، ويصرف آلاف الدولارات فقط من أجل دراسة الاتجاه النفسي والشرائي نحو «الهامبرغر»، لن يغفل معلومات مماثل شديدة الخطورة عند بناء سياساته اتجاه سورية والمنطقة.
ساد بين أوساط الإعلاميين الأكاديميين بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق اتجاه يرى أن الاحتلال الفعلي للبلاد حدث قبل عشر سنوات من تاريخ سقوط بغداد الذي شاهده العالم عبر شاشات التلفزة. كان يقصد بذلك النشاط الإعلامي والدعائي الذي درس المجتمع العراقي واستهدف تغير اتجاهاته وقناعاته حول الولايات المتحدة الأمريكية. حتى استطاع توسيع الشريحة التي استقبلت الاحتلال الأمريكي بالأهازيج ورشت الورد في طريقه.
إن كان هذا الرأي يقارب حقيقة ما جرى فعلاً، سنحتاج سنين طوالاً حتى نعرف حقاً كيف حضّر الأمريكيون أنفسهم لما يجري في المنطقة، ولكشف الأدوات التي استخدموها في توجيه الرأي العام السوري والعربي، واستغلال المطالب المحقة لشعوب المنطقة بغية حرف مسار الحركات الشعبية.
يساق هذا الحديث اليوم في ظل تعالي الأصوات الرافضة للسياسات الأمريكية لدى شرائح واسعة من المجتمع السوري التي تتهمها بإذكاء نار الحرب السورية، ووضع العراقيل أمام حلها. ويعبر بعض أصحاب هذا الاتجاه عن نفسهم من خلال تبني مقولة: «افعل عكس ما (تقوله) أمريكا»، كما لو أن الأمر «منعكسٌ شرطي»، أو فهم مبسط وسطحي لمعنى والوقوف في وجه السياسات الأمريكية. ومن أمثلة ذلك: التعامي عن ممارسات بعض الأجهزة الأمنية، أو التمسّك بسياسات التطهير والحسم العسكري فقط لأن أمريكا تدين «بالكلام» كل ذلك. من أمثلتها أيضاً تحويل بعض رموز الفساد إلى «أبطال وطنيين» وتبيّض سجلهم لأن أسماءهم وضعت على القوائم أمريكا «السوداء».
تتجلى مكامن الضعف في هذا الفهم «الميكانيكي» لعملية المقاومة، بأنه يؤخَذ أولاً «بالأقوال» التي تنقلها وسائل الإعلام والمؤتمرات الصحفية والتصريحات العلنية، ولا يلقي بالاً لما يجري «تحت الطاولة» وفي الغرف المغلقة.
تصبح وسائل الإعلام التي كانت تُتهم دوماً بالعمالة والتحيّز لأمريكا، مجرد «رسول» موضوعي للمعلومات، في نظر بعض السوريين، ويتم تجاهل التنسيق بين وسائل الإعلام وما تبثه وبين أجندة البيت الأبيض والكونغرس ووزارة الدفاع الأمريكي. وينسى الأفراد حقيقة أن الولايات المتحدة قد تستغل معرفتها بمواقف العداء الشعبي لسياساتها لتوجيه الرأي العام السوري ومجرى الأحداث بناءً على ما «تقوله»، وليس بالضرورة ما «تريده حقاً».
من جهة أخرى يتجاهل منطق «افعل عكس ما تقوله أمريكا» القوى المتصارعة في الداخل الأمريكي، والتوازنات الدولية الجديدة: كيف للمشاهد أن يكون متأكداً تماماً بأنه يحصل على الصورة كاملة دون نقصان أو تشويه؟ في ظل احتكار شبه كلي للمعلومات والأخبار من المؤسسات الإعلامية وأجهزة الاستخبارات.
لا يَغفل عن أي مواطن بسيط تخبط صناع القرار الأمريكي، وأزمات البلاد الكبرى في الداخل والخارج (التصريحات المتضاربة والمتناقضة حول الأزمة السورية كانت إحدى تجلياتها). إن كان الفهم المبسّط «للوقوف في وجه أمريكا» يعني فقط معاكسة أقوالها (المتضاربة أساساً) فلا عجب أن هذه الاستراتيجية غير المسؤولة، لم تفض بنا إلى أي مكان و«زادت في طينتنا بلة»!
لا يقصد من كل ما تقدم اقتراح «رمي الكلام الأمريكي في البحر»، باعتباره جزءاً من «خطة كونية» لتضييعنا وإرباكنا. بل الهدف منه عدم تغيّب المتغيرات الجوهرية الأخرى المترجمة للسياسات الأمريكية، والتي تُقرأ من خلال «الأقوال» و«الأفعال» ودروس التاريخ وتجارب البلدان التي خضعت للتدخل والاحتلال الأمريكي، إلى جانب فهم الداخل الأمريكي وأزماته.
لكي تصبح تلك المعلومات متاحة لسواد الشعب السوري، بحيث تؤثر في تبني اتجاهات حقيقية وجذرية مناهضة لأمريكا، يجب على القوى الوطنية والسياسية بذل كل الجهد الممكن لفهم وتحليل تلك المتغيرات. ثم محاولة خلق منابر مستقلة وموضوعية تؤمن نشرها وتفسيرها. ويجب على هيئات الإعلام السوري التي كانت تلوّح دائماً بأنها «تتصدى للمؤامرة» أخذ دورها الحقيقي والفاعل في هذه العملية بدلاً من الاستمرار بتكريس الفهم السطحي والمغلوط «لمناهضة أمريكا» والذي جعل أسلوب تعاطيها مع الواقع السوري، وإن كان يناقض أمريكا حقاً أو يصب في مصالحها بعيدة المدى، قضية موضع شك.