«دائرة الطباشير» لأيمن زيدان.. الدرس البريختي والملحمة السورية
سامر محمد إسماعيل سامر محمد إسماعيل

«دائرة الطباشير» لأيمن زيدان.. الدرس البريختي والملحمة السورية

مرةً أخرى يعود الفنان أيمن زيدان إلى خشبة المسرح القومي بعرض «دائرة الطباشير» في مسرح الحمراء (20- 30 كانون الأول) مستعيراً نص المخرج والكاتب الألماني برتولت بريخت (1898- 1956) بالعنوان ذاته الذي أراده زيدان مفتوحاً على كافة الإسقاطات الممكنة حول الحرب الدائرة في بلاده منذ أربع سنوات تقريباً؛ وذلك بحذفه كلمة «قوقازية» من عنوان النص الأصلي؛ تاركاً «الدائرة» هنا من دون إغلاق مكاني أو زماني؛

فصاحب مسرحية «سوبر ماركت» حافظ على أسلوب المسرح الملحمي في عرضه الجديد، من احتفاء بعناصر الموسيقى والأزياء والديكور والأقنعة؛ معولاً على عدم تعميق المسافة النفسية بين الممثل ودوره؛ وتوريط الجمهور في مشاركة حيوية ومباشرة في العرض المسرحي من خلال استخدام الممثلين لممرات الصالة ومقدمة الخشبة؛ إلا ان الخيار الفني لزيدان ظل واضحاً في إلباس «دائرة طباشيره» ظرفي زمان ومكان الكارثة السورية، من دون اللجوء إلى عملية دراماتورجية مباشرة بغية إخضاع النص لشروط فرجة مسرحية يشاهدها جمهور دمشق الحرب؛ بل على العكس خاض معدّ ومخرج العرض مغامرته الأصعب مع البنية المسرحية ككل، مستنداً في ذلك الى أسلوب «الغروتسك» كوحدة من المتناقضات الفنية المتباينة؛ متكئاً على مدرسة بريخت ذاتها التي تنجو بعناصر اللعبة المسرحية من المطابقة الفجة للواقع؛ فهي في العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى استلهمت روح المسرح الجدلي الذي أسسه صاحب «الأم شجاعة» منذ ثلاثينيات القرن الفائت؛ معززاً التغريب كمنطق عرض مسرحي افتتحه زيدان بموسيقى سمير كويفاتي المرحة (أداء صوتي لجوقة قوس قزح، حسام بريمو)، إضافةً إلى مقاطع فيلمية «سلايدز» لمعارك وحروب قدمها المخرج على كامل عمق الخشبة عبر تناغم لافت بين إضاءة أدهم سفر وأزياء ريم شمالي؛ ووفق تناقض مدروس بين مأساة الأم التي ربت «غروشا - ولاء عزام» والأم التي أنجبت «زوجة الحاكم - لوريس قزق»، ومدى أحقية كل منهما بالحصول على الطفل؛ طفل الحروب ذاته الذي أراده مخرج العرض هنا نقطة مواجهة بين عالم الطغاة وعالم الفقراء والمستضعفين؛ بين الحشود ورثاثة منظرها الجماعي وتورطها المزمن في إنجاز الحرب، وبين بطر السلطة وعصابات نهبها المنظمة لقوت الشعب وعمله وغرقها الفادح في التخمة. من هنا مزج زيدان بحرفيته المعهودة بين عالمين على الخشبة؛ معيداً إنتاج تحفة بريخت التي كتبها بين عامي 1944 و1945 بُعيد الحرب العالمية الثانية، كرد صاعق على عبثية الحرب ومجانية القتل الجماعي.

لقد استند صاحب مسرحية «راجعين» الى الوظيفة التلميحية للمسرح الملحمي، وبتعاون فني لافت مع ديكور وأقنعة وإكسسوار نزار بلال التي وفّرت للعرض فرصة إضافية لمستويات عديدة من القراءة، فالأقنعة المحمولة لممثلي العرض من خلف أكتافهم، لم تركن إلى الحياة الداخلية للقناع، بقدر ما تركت الباب موارباً بين الأنا الخالقة للممثل وأنا الشخصية التي يشتغل عليها؛ حيث تنداح الحكاية منذ بدء العرض من دون أن تكون الموسيقى بمثابة تعليق على الحدث، أو أن تتدخل الأقنعة وقطع الديكور البسيطة في المصادرة على مخيلة الجمهور وتحليله الشخصي؛ كلاً من مقعده في الصالة؛ وليكون العرض متناهياً في أسلبته للواقع من دون الانغماس في الاستجداء والعاطفة؛ وإنما مفتوحاً على فرجار «دائرة الطباشير السورية» التي تطل برأسها بين لحظة وأخرى من زمن العرض (90 دقيقة) من دون أن تكون هناك بارقة أمل واحدة إلا في «عدالة الحكاية المسرحية» التي يقررها «القاضي آزداك - محمد حداقي» حين يقضي ببنوة الطفل للأم التي ربت وتعبت وغامرت بكل شيء من أجل طفلها. لكنها في المحصلة تورية لن تغيب عنها انتقادات مباشرة للبروليتاريا التي شوهتها الحرب وروّعها فساد أمرائها؛ لتصبح هذه البروليتاريا نسخةً مصدّقة عن جدلية السيد والعبد، بعد أربع سنوات من حرب الفقراء ضد بعضهم، إلا ان الحشود في النهاية ستردد جملة اشتراكية قديمة على لسان شخصية القاضي؛ مؤكدةً وجودها ومواقعها السابقة: «الأرض لمن يفلحها؛ والوطن لمن يحميه ويدافع عنه».

 

المصدر: السفير