نحن «أسرة»....  شركات الخمس نجوم

نحن «أسرة».... شركات الخمس نجوم

تصر الكثير من الشركات والمنظمات الخدمية - الخاصة منها تحديداً- على لم شمل الأعضاء العاملين فيها، أو تشديد وتعميق روح الروابط «الأسرية» فيما بينهم عبر الاستخدام المتكرر لتلك المصطلحات في إعلاناتها المسموعة والمرئية أو حتى ضمن رسائل العمل الداخلية فيما بين عامليها، تكراراً يدفع بالضرورة إلى التساؤل عن الغاية من استخدام مثل تلك العبارات «الحميمية» ضمن هذه المنشأة أو تلك المنظمة...

قد لا يخفى على أحد أن روح الفريق هي من الشروط الأساسية لنجاح أي عمل مشترك أو جماعي، وقد يرى البعض في هذا الشرط حجة تبرر استخدام تلك الشركات والمؤسسات وأحياناً بعض المنظمات لمصطلحات مثل العائلة أو الأسرة، إذ أنها تهدف إلى تقوية روح العمل بين أعضائها وعمالها، وليس الخلاف هنا على صحة هذا الهدف بالمطلق باعتبار العمل ذا طبيعة اجتماعية حصراً، ولكن الخلاف يبدأ عندما يتعارض الهدف المعلن لهذه الشركات بصورة فاقعة مع طبيعتها، والتي تقوم على تكريس روح الفردية في العمل لا العكس، وتتجسد على سبيل المثال في علاقة العامل مع رب العمل، والتي يحيط بها مايكفي من الشوائب لعدم اعتبارها نموذجاً «أسرياً» من الدرجة الأولى، وعندما يكون عقد العمل شريعة المتعاقدين ومع ذلك يصل الخلل في تقدير جهد العامل إلى درجة حصوله على 20% مما يستحقه، فسوف تسود هذه العلاقة الكثير من العقبات التي تحول دون «أخوية» العامل ورب العمل..!! وبالتالي دون شعور هذا العامل بالانتماء الحقيقي إلى مكان عمله.

هوية الفرد والمجتمع:

في دراسة علاقة الفرد بالمجتمع، يقسم علماء النفس والأنتروبولوجيا الدوائر التي ينتمي إليها الفرد إلى قسمين، يعرف أولهما بزمر الانتماء الأولية، ومنها العائلة أو مؤسسة العمل والتي تعتبر بدورها انتماء قسرياً أو إجبارياً لا يخضع لإرادة الفرد، وثانيهما هو زُمر الانتماء الثانوية كالمنظمات الثقافية أو السياسية (الأحزاب مثلاً)، وتتسم هذه  بكونها زمراً تعاقدية، تترك للفرد الخيار في الانتماء أو عدمه، وتعتبر تعبيراً عن مدى رغبته وقناعاته.

تحاول اليوم بروباغندا «الفرد والذات» على الطريقة الأمريكية أو النيوليبرالية، نسف هذه القناعات تحت مقولة «اللاإنتماء»، فالحيادية والتجرد والاستقلالية هي سمة «الحداثة» لدى الغرب ومنظريه، واللامنتمي هي بالضرورة سمة الإنسان “العصري” المواكب لعصر التطور والتقدم، حيث يبدو الحديث عن الانتماء ضرباً من التخلف والحجرية التي لا تتناسب ومعطيات هذا العصر..!

واللافت هنا أن الدعاية الأخيرة تهدف بشكل أساسي إلى ضرب زمر الانتماء التعاقدية باعتبارها خياراً يمكن للفرد تبنيه، في حين أنها تبقي الفرد أسير الانتماءات الأولية باعتبارها إجبارية ومفروضة، لتصبح بذلك مقولة «اللاإنتماء» ليست تعبيراً عن استقلالية الفرد وإنما تعني بشكل أدق، أسر الفرد في دوائر بدائية تشبع له رغبته وحاجته الاجتماعية الغريزية في الانتماء إلى الجماعة والمقتصرة في هذه الحالة على زمر الانتماء الإجبارية كالعائلة ومؤسسة العمل..

بعد هذا كله، يصبح من السهل بمكان، تفسير الفريق العائلي أو الأسري الذي تحاول بعض الشركات أو المؤسسات خلقه، كمحاولة لملء الفراغ الاجتماعي لدى الفرد، وفك عزلته الاجتماعية التي لطالما سعت هي ذاتها أن تجعل من تلك العزلة مقياساً ومعياراً مهماً لنجاح الفرد واستقلاليته، وذلك عبر استغلالها لمساحات من الفراغ الناجمة عن الخلل الحاصل في بنية النظام الاجتماعي السياسي، والمتمثل في تراجع دور الدولة ومؤسساتها في تلبية حاجات الفرد والمجتمع الاقتصادية منها والاجتماعية، تراجعاً جعل من اليسير على تلك المؤسسات لعب دور البديل كحاضنة اقتصادية واجتماعية وهمية.