«الزنوج».. والعنصرية العصرية

«الزنوج».. والعنصرية العصرية

جلست «جاين» في مقعدها المفضل، لتتناول الغداء، في المطعم القريب جداً من عملها في مكتب بريد بلدة “ولفبورو” الصغيرة في ولاية “نيوهامبشير” الأمريكية، وضع الطعام على الطاولة وهمت بتناول وجبتها، عندما دخل مفوض الشرطة في البلدة «روبرت كوبلاند» إلى المكان، رفع قبعته محيياً «جاين» بابتسامة، ثم جلس على طاولة قريبة

قدم صاحب المطعم للرجل كأساً مثلجاً من الماء، سمعت «جاين» حديث الرجلين عن أحوال البلدة، والطقس، وأخبار مباريات فريق البلدة الأخيرة، لكن جملة صاعقة وجدتها مهينة للغاية، فقد قال المفوض باستهزاء: «أنا لا أشاهد التلفاز هذه الأيام.. لا أريد أن أرى صورة ذلك الزنجي اللعين في كل مكان..» يقصد الرجل الرئيس أوباما، رمقت المرأة «روبرت» بغضب، وخرجت من المطعم على عجل، أرسلت رسالة إلى المحافظ تصف فيها ما جرى، مطالبة بمحاسبة هذا المفوض «العنصري» على ما قال، في غضون ساعات أصبحت هذه الرسالة حديث كل شاشات أمريكا!!

شغل الحدث الناس داخل ولاية «نيوهامبشير» وخارجها، «لا بد من محاسبة هذا الرجل الذي يسيء إلى سمعة الحريات في بلادنا» يقول أحد المتظاهرين أمام مبنى المحافظة، تناقلت نشرات الأخبار المحلية أقوال المفوض «العنصرية»، وتحول إلى عدو الأمة الأول الذي «يقوض مبادئ التسامح التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية».

ضجيج إعلامي..

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، فقد شهدت الولايات الأمريكية خلال أقل من شهر مجموعة من الحوادث المشابهة التي أخذت نصيبها من التغطية الإعلامية وأثارت حولها الكثير من الجدل.
اتهمت السلطات في ولاية «نيفادا» المزارع «كليفن باندي» بالتهرب الضريبي، فقام الرجل بتنظيم احتجاج لم يخل من عبارات عنصرية تم التقاطها عبر الكاميرات، وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي في غضون ساعات، صرخ الرجل من على منبره بعنصرية فاضحة تنتمي للقرون الماضية: «على أولئك الزنوج أن يعودوا عبيداً في الحال، أرى أن من الأفضل لهم أن يقطفوا القطن وينعموا بأولاد كثر، إن ذلك أفضل لهم!». استنكر الكثيرون تصريحات هذا الريفي الأبيض وأثار الأمر ضجة إعلامية غير اعتيادية، إلى أن تبع ذلك تصريح من رجل أبيض عجوز آخر، وهو مدير فريق «لوس أنجليس كليبرز» لكرة السلة «دونالد ستريلنغ» في معرض حديثه مع صديقته في إحدى المباريات، بعد أن التقطت الأخيرة صورة تذكارية لها مع أسطورة كرة السلة «ماجيك جونسون» اللاعب الأفريقي-الأمريكي، خاطبها قائلاً: «تحدثي معه.. أدعيه إلى منزلك.. أطعميه.. شاركيه الفراش إن أردتي.. لكن.. لا تلتقطي مع ذلك الزنجي أي صورة ليراها العالم كله!».
قد يستغرب البعض من كثرة تلك الحوادث في زماننا هذا، لقد تخلصت الكثير من المجتمعات «المتحضرة» من عنصريتها البغيضة ولم يعد لمثل هذه التصريحات الوقحة أي وجود، كما أن معظم الأمريكيين يفاخرون بتخلصهم من إرث العنصرية البغيض إلى غير رجعة، وهاهم يستعدون للاحتفال بالذكرى الخمسين لقانون الحريات المدنية الذي يحتفي بالمساوة العرقية بعد أيام قليلة، لكن يؤكد كثيرون بأن ذلك القانون الذي أعده الرئيس «ليندون جونسون» شكلي للغاية، لقد بقيت الفوارق العرقية حاضرة طوال السنين التي تلت صياغة ذلك القانون، وكمن الفارق الوحيد في محاولات السلطات المدنية ومؤسسات الدولة الإعلامية في تغطية هذا الشرخ بدلاً من التباهي به قبل سنين من إعلان ذلك القانون.
وبالرغم من تضحيات الكثير من أعراق الشعب الأمريكي ضد سطوة السلطة البيضاء قام الرئيس الأمريكي الأسود «باراك أوباما» بشكر إدارة الرئيس «ليندون جونسون» في زيارته الأخيرة لمتحف التاريخ الأمريكي لإصداره مثل ذلك القانون الذي «فتح الباب» له ولأمثاله للوصول إلى ما هو عليه اليوم..!
عاود «أوباما» شكر روح الرئيس «جونسون» مرات ومرات، دون أن يذكر لمرة واحدة دماء الطلاب والطالبات الملونين على هراوات رجال الشرطة في السنين التي سبقت وتلت إعلان ذلك القانون، لقد محيت عقود من التاريخ الأمريكي الحديث الممتلئة بقصص الرفض الشعبي لسياسات التمييز التي رسخها هذا القانون بدلآ من العمل على إلغائها.

«لأنني أسود..!!»
ش
أصبح من المعيب في أمريكا أن تتلفظ بكلمة «زنجي»، يشار لها بـ «N-word» المحرمة، وسيلقى من يتلفظ بها أشنع موجات الرفض الجماهيري، حتى ولو كان رجلا أبيضاً في أواخر سنوات عمره كـ«كوبلاند» و «باندي» و «ستريلنغ»، وستتوقف جهود مكافحة العنصرية عند ذلك الحد. لن يتحدث أحد عن نمط معاصر من العنصرية، لن يقول أحد أي كلمة مهينة بحق «الزنوج»، لن يتحدث أحد عن التمييز الحكومي ضد السود الأمريكيين الذي وضحته بالأرقام وزارة التربية الأمريكية في إحصائيات العام 2013، حيث أكدت الإحصائية بأن التلاميذ السود تحت عمر عشر السنوات يتعرضون لعدد من العقوبات المسلكية تفوق بأربع مرات نظرائهم البيض، كما أوضح تقرير أخير لمكتب مكافحة المخدرات الأمريكي بأن عدد المدمنين على الهرويين من البيض يفوق عدد المدمنين من السود مخالفاً بذلك الصورة النمطية المعاكسة، لكنه يقر بأن السود الأمريكيين ما زالوا يتعرضون لتفتيشات «عشوائية» في المطارات ومحطات القطار بحثاً عن المخدرات بنسب تفوق ثلاث مرات حملات التفتيش ضد البيض.
ربما لم تعلم «جاين» بكل ما يحدث من حولها، وستكتفي بمحاسبة ذلك العجوز الخرف على ما قال، إنها لا تعلم بأن  الرئيس الأسبق “ريتشارد نيكسون” ، أحد أبطال أمريكا في كتب الدراسة التي عهدتها قد قال يوماً لأحد معاونيه في معرض حديثه عن ثورات السود الشعبية في بداية ولايته: «عليك أن تعلم بأن المشكلة الكبرى هي أولئك السود، لكن علينا أن نقود نظاماً سياسياً لا يظهر للناس بأن المشكلة هناك»، وهذا ما حدث، تمت التغطية على تلك الفروقات العنصرية، وتجاهلت الحكومات المتعاقبة التناقضات المعيشية الشاسعة التي رسختها عقود من الانحدار الاقتصادي والأزمات المتعاقبة، تناسى جميع الأمريكيين من كل الأعراق والألوان كلمات «مارتن لوثر كينغ» الشهيرة: «لقد عملت جاهداً كي أعطي إخوتي الحق في أن يأكلوا في المطاعم، لكني اليوم أناضل لكي أمنحهم المال ليأكلوا في تلك المطاعم»!!