آنا عكاش: أكتب لأستمر ولا أستوعب هذا الفقدان
سامر محمد إسماعيل سامر محمد إسماعيل

آنا عكاش: أكتب لأستمر ولا أستوعب هذا الفقدان

تشتغل آنا عكاش منذ سنوات في العديد من المشاريع الفنية والأدبية؛ فمن الترجمة التي قدمت لها عشرات الكتب والدراسات النقدية والنصوص المسرحية عن اللغتين الروسية والإنكليزية كان أبرزها «الأصول التاريخية لنشأة المونودراما ـــ هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام، 2012». وكتاب «تاريخ الأزياء ـــ منشورات المعهد العالي للفنون المسرحية، دمشق 2008» 

عملت المخرجة والكاتبة السورية بعد حصولها على ماجستير في العلوم الثقافية، في المسرح وفنون العرض، من المعهد العالي للفن المسرحي في تونس 2011 على الكثير من العروض المسرحية كدراماتورج؛ محققةً العديد من النصوص للسينما الوثائقية والروائية والتلفزيونية؛ لتقدم مؤخراً عرضاً للأطفال بعنوان «الدجاجة السوداء» على مسرح القباني بدمشق.

 

نص الحوار مع الكاتبة والمخرجة آنا عكاش:

 

-كيف تنظرين اليوم إلى حال الكتابة المسرحية وهل نستطيع القول إن زمن الأدب المسرحي قد انتهى بعد لجوء العديد من المخرجين إلى الكتابة للخشبة والعمل على نصوص الارتجال الجماعي؟

معظم نصوص المسرح العالمية كتبت للخشبة كالمسرح اليوناني والكلاسيكيات الفرنسية ومسرح شكسبير وأنواع مسرحية أخرى، حيث كان الكاتب في معظم الأحيان هو المخرج أيضاً.. النص المسرحي يُكتب ليُعرَض، ولا أؤمن شخصياً بالنصوص المسرحية المكتوبة للقراءة فقط لأنها تنافي شرط المسرح الأساسي من وجود ممثل وجمهور، فالمسرح خلق للخشبة أما القراءة فلها أجناسها الأدبية الخاصة.

 

-كيف تقيّمين واقع الترجمة في سورية في ظل التراجع الحاصل اليوم وانخفاض أجور المترجمين إزاء ما يتقاضاه المترجمون خارج سورية؟

بصراحة.. لم أتعامل في مجال الترجمة سوى مع «الهيئة السورية العامة للكتاب» ولا علم لي بتسعيرة الدور الخاصة.. لكن ما لاحظته مؤخراً هو ابتكار شروط جديدة لإيداع المخطوطات لدى الهيئة، وبرأيي أن هذه الشروط قد وضعت للعرقلة بدلاً من التسهيل، فاشتراط وجود نسختين مطبوعتين من المخطوط المُقدم وعدم قبوله بالصيغة الالكترونية فقط هو أحد العوائق، مثلاً ستعادل كلفة طباعة هذين المخطوطين لتقديمهما للجنة القراءة تقريباً بما يعادل نصف المكافأة المُقدمة عن الكتاب لاحقاً، وربما يزيد حسب عدد الصفحات، خاصة بعد غلاء كل ما يتعلق بمستلزمات الطباعة والنشر من ثمن الورق والأحبار وإلخ...

 

مسرح الطفل

-قمتِ بإعداد وإخراج وترجمة العديد من النصوص لمسرح الأطفال في سورية، كيف ترين اليوم واقع مسرح الطفل في ظل الحرب الدائرة؟

لا يزال واقع مسرح الطفل كما هو، فمن اعتاد ارتياد المسرح قبل الحرب واظب على ذلك بعدها، الجمهور لم يتغير، خاصة أن المسارح تقع وسط العاصمة ولا تشمل عروضها الأرياف إلا فيما ندر ضمن فعاليات سنوية.. وهو أمر بات مستحيلاً الآن.. ما يؤثر على نسبة الحضور من الأطفال وذويهم حسب ما لاحظته ليست القذائف والصواريخ المتساقطة، فقد بات هذا الاستثناء حدثاً اعتيادياً ضمن مسير يوم دمشقي عادي، مثله مثل حوادث السير أو الازدحام المفاجئ في نقطة مرورية ما.. أما ما يؤثر فعلياً على الحضور هو توقيت العرض والامتحانات المدرسية وقد يعود لسوء الطقس في بعض الأحيان.. حيث يلاحظ زيادة وتيرة الحضور خلال العطل الأسبوعية وتراجعها أثناء الأيام العادية.. إلا أن الصالة تمتلئ رغم ذلك ولو ببضع صفوف.. تماماً كما كانت الحال قبل بداية الحرب...

 

-إلى أي حد برأيكِ يمكن اليوم إعادة مسرح الدمى إلى الحياة في ظل هجرة العديد من الخبرات إلى خارج البلاد؟

أمر ممكن جداً، وأنا متفائلة بهذا الخصوص، فالخبرات تحولت إلى (خبرات) نتيجة للممارسة الفنية والتجريب والتدريب ونتيجة الطلب عليها أيضاً، لكن غياب بعض الأسماء المعروفة في مجال صناعة الدمى في سوريا لا ينفي إمكانية إيجاد بدائل عنها من متخرجي كلية الفنون الجميلة أو قسم السينوغرافيا في المعهد العالي للفنون المسرحية، أو أي شخص يمتلك الموهبة ويحبّ عمله وما زال مقيماً في سوريا، يكفي فقط منحهم فرصة أولى للتجريب، ومع الفرصة الثانية والثالثة سيتحوّلون تدريجاً إلى كوادر جديدة لتنوب عن القديمة، مع رؤية فنية جديدة أيضاً... مثلاً أحد الأسرار التي دعتني إلى استعمال الدمية المسطحة في عرض «الدجاجة السوداء» يعود لهذا السبب، والنتيجة كانت مبتكرة وجيدة.. وأنا راضية عنها تماماً.

 

الهرب من الموت

-ماذا عن عالم الدمى وكيف يمكن إعادة العلاقة بين جمهور الأطفال وعالم الدمى لاسيما بعد التراجع الذي تشهده مسارح العرائس في سورية؟

لا أرى تراجعاً، إن كان هناك تراجع فهو يعود فعلياً إلى «خصْوَرة» التكاليف الإنتاجية للعمل المسرحي بسبب الظرف الاستثنائي الذي نمر به، وهذه «الخصورة» ستؤدي حتمياً إلى تراجع في المستوى الفني والتقني المقدّم وتعيق شرط العمل الصحيح والمريح نسبياً، لكن أعود وأكرر.. الظرف استثنائي.. وآمل ألا يتحول إلى قاعدة لاحقاً.. رغم شكي في ذلك؛ فلا أعتقد أن أحداً ممن يعمل في المسرح الآن يعمل من أجل المال، الكل يعرف واقع الحال، والصعوبات التي يتكبدها المسرحي للوصول من بيته إلى المسرح بشكل يومي مع انقطاع الطرقات والحواجز والازدحام وتساقط القذائف؛ وما يمكن أن يصادفه من اشتباكات على الطريق يكلفه بما يعادل المكافأة التي سيحصل عليها، وربما حياته أحياناً؛ فمن يجرؤ على الدخول إلى هذا العالم الآن، أي دمشق العام 2014، إنما يفعل ذلك لمتعته الخاصة فقط.. ولتعبئة فراغات داخل نفسه، فالمسرح ولع.. لعب، فرح.. رغبة باستمرار الحياة الطبيعية ولو بالوهم، ووسيلة للهرب من واقع الموت خارج الخشبة وخارج المسرح.. ولو لبضع ساعات.

 

-أنت واحدة من المخرجات المسرحيات اللاتي عملن كثيراً على مفهوم الدراماتورجيا. فهل استطاعت المسارح العربية أن تستفيد من هذا المفهوم في العروض التي تقدمها؟

لا أظن.. نادراً ما يمارس الدراماتورج مهمته بالتعاون مع المخرج للوصول إلى تصور موحّد للعرض المسرحي، وغالباً ما يقتصر دوره فقط على تحليل الشخصيات ودوافعها ومساعدة الممثلين على تلمّسها، ثم ينسحب ليترك إتمام المهمة للمخرج بالطريقة التي تجسد رؤيته الفنية وتصوراته عن العرض ككل، حتى لو لم تتوافق هذه الرؤية مع رؤية الدراماتورج؛ أو تقتصر مهمته في بعض الأحيان على تعديل النص المكتوب وإعداده للخشبة، لاحقاً يخضع هذا النص لتعديلات المخرج أيضاً.. وبذلك يتحول مفهوم الدراماتورجيا إلى مجرد تعبير شكلي وصفة مطبوعة على البروشور المسرحي لا غير...

 

-ككاتبة اختارت البقاء في دمشق تحت قذائف الموت وهدير الطيارات الحربية كيف يمكنكِ وصف الوقت الذي تقضينه في نهارات العاصمة وهل ما زلتِ قادرة على الكتابة رغم كل ما يحدث؟

أعيش حياة (عادية)، مع كثير من عبارات «العمر إلكن»، «مبارك ما عملتوا»، «الله يرحمه»، «حمد الله على السلامة».. وهكذا بالتناوب.. لم أعد أسمع الأصوات ليلاً ولا تمنعني من النوم.. غريب إحساس الاعتياد هذا.. لا يزعجني شيء سوى الازدحام المروري الذي يعيق التنقل بسرعة ففضّلت السير في دمشق على قدميّ.. من أقصاها لأقصاها.. واستغنيت عن الكعب العالي منذ ثلاث سنوات.. كما أنني قررتُ ألا أرتدي السواد على أحد لأنهم كُثر، ألوان الفرح لا غير. فقدنا الممثلة الرئيسة في عرض «الدجاجة السوداء» منذ بضعة أشهر، رحلت بطريقة عبثية تماماً، قذيفة هاون أصابت جسدها الشاب.. ما يسبب لي الغصّة أنها تحوّلت مع مرور الأيام إلى مجرد رقم يزيد تعداد القتلى لا غير. اليوم أشاهد صور العرض أحياناً ولا أستطيع تصديق أن سوزان سلمان قد رحلت بكل طاقتها وحيويتها وحماستها ومشاريعها للمستقبل.. ما زلت أحياناً أسمع صوتها... توقفت عن الكتابة لأسبوع تقريباً لأعطي لنفسي بعض الوقت لأفهم ما جرى.. لأستوعب الفقدان.. ثم عدت لأكتب.. ثم فقدت عزيزاً آخر وعُدت.

نعم، أكتب لأستمر.. ورغم ذلك ما زلت لا أستوعب هذا الفقدان لأناس وأماكن هم مساحة كبيرة من الذاكرة.

 

أجرى الحوار: سامر محمد إسماعيل

المصدر: السفير