قرطاج الجديدة.. وأصوات الحرية

قرطاج الجديدة.. وأصوات الحرية

نهض الصحفيون من على مقاعدهم، كان انتظاراً طويلاً في هذه الصالة المكيفة وسط الصحراء، اعتلى الجنرال «مارك كيميت» المنصة، ابتسم للصحفيين المرهقين ثم بلل شفتيه بكأس من الماء المثلج، كان هذا قبل عشر سنين بالتمام والكمال، ما زال الاجتياح الأمريكي للعراق حديث العهد، وما زالت الصحافة العالمية تتابع عن كثب التفاصيل اليومية لـ«نشر الديمقراطية» هناك

استمع الجنرال إلى أسئلة الجميع وردّ على معظمها، نهض أحد الصحفيين وفاجأ الجنرال المتعب بسؤاله: «يا حضرة الجنرال.. ما الذي يمكن أن تقوله لأهل العراق المرهقين من القصف والرصاص والطلعات الجوية اليومية التي تحصد الأرواح بلا هوادة، ما الذي يمكن أن تقوله لأطفال العراق الذي يرتعبون طوال الوقت من أصوات الطائرات ودوي القنابل؟!»، توقف الجنرال لوهلة ليستوعب مضمون السؤال، لكنه سرعان ما ابتسم وهو يلملم أوراقه من على المنصة: «أقول لهم.. هذا صوت الحرية!!».

كان ذلك من على حدود «الفلوجة»، في الحادي عشر من نيسان من العام 2004، لم تغب أخبار تلك المنطقة عن شاشات الأخبار يوماً، وبعد عشر سنوات من «الديمقراطية» ما تزال اليوم تنزف الكثير من الدماء، جماعات متطرفة مدعومة من قوى الظلام ما زالت تسرق أحلام الصغار وقوت الكبار، لم يهدأ صوت الرصاص طوال تلك السنين، عرفت المدينة السوداء ويلات وجروحاً لا تندمل، هجرها من استطاع الهرب ودفن تحت ركامها من حالفه الحظ بتلقي «الحرية والديمقراطية الأمريكية»، تلك المبادئ التي رأى الجنرال «كيميت» أن من الأفضل إيضاحها للصحفيين قبل دخوله «الفلوجة» في تلك السنة، فكانت النتيجة استعراضاً مضحكاً ومبكياً في الوقت نفسه!!

الفلوجة.. قرطاج الجديدة

كان الجنرال «كيميت» من الجنرالات الصغار في سلم الجيش الأمريكي، وهو أحد معاوني الجنرال «تومي فرانكس» القائد الأعلى لقوى الاجتياح الأمريكي للعراق، والذي لا يعرف الكثيرون عنه قوله الشهير: «إن عملية تعداد الضحايا العراقيين لا فائدة منها ولا حكمة فيها..!!».
صعد «كيميت» على المنصة آنذاك، وبدأ باستعراض قدرات قوات البحرية الأمريكية في التعامل مع هذا النوع من الحصار: «نحن جاهزون لتوفير أي نوع من المساعدات الإنسانية على الفور، طواقم مدربة تتأهب لاستقبال المحتاجين من المدينة، إنه ما تتفوق فيه قوات البحرية الأمريكية عن مثيلاتها، قدرتها على تأمين أي مساعدة لأي مدينة في العالم بوقت قياسي!»، ابتسم الجنرال فخوراً لكن الأيام اللاحقة أثبتت للعالم بأنه ربما كان يمزح مزحة سمجة..
عوملت المدينة على أنها حقل تدريبي للرمايات النارية، في اليوم الأول، تم تدمير مستشفيين يحوي أحدهما أحد أحدث المراكز الطبية في البلاد، تدميراً كاملاً، كما جرى بمعظم المنازل في المنطقة، دخلت قوات البحرية الأمريكية بعد أن فجرت كل شيء، واقتادت من تبقى على قيد الحياة أسرى في صفوف طويلة من مقيدي الأيدي، ترك المصابون من العراقيين ليلاقوا الموت متأثرين بجروحهم، لم يكن أحد ينوي تقديم المساعدة لهم في الأساس، صرح الكولونويل «بيت نيويل» الذي شارك في العملية الدموية تلك: «أراد الجيش الأمريكي أن تفهم الفلوجة ما هي الديمقراطية!».
فهمت «الفلوجة» بأنها تحولت إلى أمثولة لمقاومي الجيش الأمريكي أينما كانوا على الأراضي العراقية، هذا ما عبر عنه الكولونيل «رالف بيترز» بكل وقاحة: «علينا ألا نتردد من جعل الفلوجة عبرة لغيرها، علينا أن نثبت على الدوام بأن الجيش الأمريكي لا يرد ولا يهزم، حتى وإن اشتمل الأمر على إحداث نطاق واسع من الدمار» وتابع قائلاً: «حتى وإن لاقت الفلوجة دماراً كدمار مدينة قرطاج القديمة، مصلحتنا تقتضي ذلك!».

غيروا القناة..

أما على المنصة، لم يحافظ «كيميت» على ابتسامته لوقت طويل، لقد باغته أحد مراسلي صحيفة «الغارديان» ببعض الأسئلة المحرجة: «أنت تتحدث عن حرب نظيفة خاطفة في الفلوجة.. لكن معظم العراقيين يعلمون طبيعة الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية، إنهم يرون صور القتلى من الأطفال والنساء على التلفاز.. ما الذي يمكن أن تقوله لهم؟!».
يجيب الجنرال على الفور بوقاحة: «إن رأى أحدكم هذه الصور على التلفاز .. فليغير القناة ببساطة.. وليقم باختيار قناة أخرى لا تحمل أي نوع من الحقد أو التحيز، هناك العديد من القنوات التي تشن حرباً إعلامية على الجيش الأمريكي، وهي تبث على الدوام صوراً عن أطفال يقتلون على يد الجيش الأمريكي.. كلها أكاذيب.. غيروا القناة..!».
بعد شهر من نصيحة «كيميت»، وعلى مقربة من الفلوجة، أصدرت جماعات حقوقية صوراً صادمة للعالم، ظهرت فضيحة «أبو غريب» تحت الضوء، صور عن جنود ارتكبوا ما لم يتخيله عقل مع أسرى عراقيين، تعذيب بالكهرباء، ضرب وتكسير عظام وتهشيم وجوه، أجبر الأسرى على خلع ملابسهم ليدخلوا في طقوس مريضة يديرها حراس السجن، ربطت أطواق الكلاب على أعناقهم وأجبروا على العواء، اغتصابات بالجملة وأمام الكاميرات، كان استعراضاً مهيباً للـ«الدميقراطية» الأمريكية في أجمل صورها!.

«بلدة».. بغداد!!

 لم يقم «كيميت» بإدلاء أي تعليق على هذه التجاوزات بحق الإنسانية جمعاء، على كل حال، لا يمكن أن تلومه، يبدو أنه يعاني من نوعاً من الاضطراب، لقد أشار في السنة ذاتها وفي مؤتمر صحفي كبير إلى «بغداد» على أنها «بلدة»، لقد قام بالتعريف عن أحدى أشهر المدن وأقدمها بل وأكثرها ارتباطاً بالعمليات الحربية الأمريكية على أنها «بلدة»، عدة مرات!
يعمل «كيميت» اليوم مستشاراً أمنياً لشركات النفط الكبرى في الشرق الأوسط بعد أن تقاعد من صفوف الجيش الأمريكي، إنه يجني اليوم الكثير من الأرباح بعد أن ساهم في تعزيز حالة عدم الاستقرار المنشودة في الشرق الغني بالموارد، وبعد أن قدم الكثير لعمليات التخريب الاقتصادي الممنهجة للعديد من الدول حول العالم، والتي حصدت في طريقها أرواح الكثير من الأبرياء، حوالي ألف ضحية وسطياً منذ السنين الأولى للغزو الأمريكي للعراق، لقد سمعوا جميعاً «صوت الحرية» التي بشر بها عشر سنين من الآن..