ذكريات مع أمل دنقل:  كتب ملحمة «الموت في الصحراء» ولم ينشرها
سارة عبد المحسن سارة عبد المحسن

ذكريات مع أمل دنقل: كتب ملحمة «الموت في الصحراء» ولم ينشرها

يروي الشاعر والكاتب مسعد إسماعيل، أنه عاش معه خمس سنوات من عمره وكأنها خمسة أيام. لم يشعر فيها للحظة واحدة أنه حاد المشاعر، كما كان يتصور البعض عنه عندما يلتقون به للمرة الأولى، من يعاشره يعرف أنه رقيق القلب، كان يعشق القراءة ليلاً وينام نهارًا، كان يحفظ أشعاره التي كان يكتبها كل صباح قبل أن يذهب للجامعة، قال عنه عبد القادر القط أنه أفضل ممن حصلوا على 2 دكتوراه، كان نادرًا ما يهدى قصائده لأحد، لكن كان يكتب لي إهداءً على كل ديوان يصدر له «إلى صديقي الشاعر مسعد إسماعيل، الذي يتلاعب بعواطفي دون أن يدري.. أكن له كل الحب»، هذا هو الجانب الخفي في حياة الشاعر الكبير أمل دنقل أو كما لقبه البعض «أمير شعراء الرفض».

روى مسعد أنه عرف أمل دنقل عندما كان في السنة الأولى في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بعدما قرأ له قصيدة في مجلة الشعر آنذاك، وكان هو يكتب الشعر، سأل عنه فعرف أنه يجلس في مقهى ريش فذهب إليه هناك وأنتظره حتى جاء فعرفه بنفسه وجلس معه بعض الوقت.

سأله دنقل ماذا قرأت لي؟ وماذا كتبت أنت من الشعر؟ فأستأذنه أن يلتقي به مرة أخرى فلم يمانع وأخبره أنه يقيم بمفرده بحي السيدة زينب، وبعد مرور عدة أيام وجد الدكتور علي عشري زايد وكان معيداً في ذلك الوقت بالكلية يسأل عنه وأبلغه أن دنقل سأل عنه، خيم عليه الفرح وقتها وشعر وكأنه قد وصل إلى السحاب، وكان ذلك سبباً في اهتمام أساتذته به في الكلية، وازدادت فرحته أكثر عندما أخبره دنقل أنه يريد أن يقيم معه فأوصله للبيت وعاد إلى الكلية.

يقول مسعد: من لا يعرف أمل دنقل كان يظنه فظًا قاسيًا في تعامله مع الناس، ولكنى رأيت إنسانًا رقيقًا، وأذكر أنني سألته ذات مرة لماذا تبدو للناس حادًا؟ فكانت إجابته إنه لا يحتمل أعباء علاقات مع أناس لا يعرفهم، ويضيف مسعد ولكن دنقل كان يحمل بين جنبيه قلبًا رقيقاً مليئًا بالمودة والحب لكل الناس، إلا أنه كان يضع على وجهه قناع التجهم لمن لا يعرفونه.

شاهدته يكتب الشعر، فلم يكن يكتب الشعر الذي كان معروفا لدي بالمعنى العام وقتها ولكنه كأنه يكتب سيناريو أو يرسم بالكلمات، فعندما كنت أقرأ قصائده وأشعر وكأني أشاهد لوحة فنية كما كانت لغته قوية شديدة التماسك خالية من الحشو الزائد وكان يعشق المتنبي أما مثله الأعلى الراحل الكبير الشاعر محمود حسن إسماعيل.

كانت القصيدة تأتى في ذهنه بشكل عام وعندما تتبلور كان يكتبها على الورق ثم كان يعدل فيها كلمة أو كلمتين وتذكر عندما كان يكتب في قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة»: «من قال لم يمت وظل روحا عبقرية الألم» ثم غيرها لـ«أبدية الألم».

شعرت عندما كان يكتب قصيدة «لا تصالح» عام 77 أي قبل توقيع معاهدة كامب ديفيد بعام واحد أنه يوجه نصيحة للسادات بعدم توقيع المعاهدة لأنه تنبأ فيها بحدوث هذا التصالح ولكن لم يلق له السادات بالاً وعقد المعاهدة، كنت في ذلك الوقت خارجا من باب مبنى جريدة الأهرام وشاهدت مناحم بيجن في موكب فقررت بعدها أن أترك مصر وذهبت للعمل بالإمارات العربية المتحدة، كما كتب دنقل أيضا قصيدة في  أواخر أيامه «فى الغرفة 8»، وهي الغرفة التي كان مقيماً بها بالمستشفى عندما حل عليه المرض.

كنا نرتاد الجمعية الأدبية ورابطة الأدب الحديث ودار الأدباء، حيث نلتقي فيها بكبار الكتاب أمثال عبد القادر القط، ود.يوسف إدريس، د.عز الدين إسماعيل، والشاعر محمد عفيفي مطر والناقد الأدبي فاروق عبد القادر والمسرحي نجيب سرور رحمة الله عليهم، أما أصدقاؤه المقربون فكان الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازي والدكتور أحمد هيكل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للثقافة، ويوسف السباعي.. وكان هناك جلسة أسبوعية كل جمعة بمقهى ريش يأتي فيها نجيب محفوظ ويتحلق حوله عدد كبير من الشعراء والأدباء منهم جمال الغيطاني وأدوار خراط ومحمد صالح وعز الدين نجيب، ويوسف القعيد.

وكان من أصدقائه أيضاً المخرج شادي عبد السلام والذي لاحظ الشبه الكبير بين أمل دنقل وأخناتون، وظل يعد فيلما لسنوات طويلة عن أخناتون وأقنع أمل بتمثيله.. مات قبل أن يرى هذا الفيلم النور.

ذكر أنه كان قارئا نهما وكان يمتلك ذاكرة فوتوغرافية وكانت عادته في القراءة عندما يعود ليلاً يقرأ كتاباً أو بعضاً منه قبل أن ينام وكان مدبولي صاحب المكتبة الشهيرة يمده بالجديد في عالم الكتب حتى الممنوع فيها، وكان يقرأ في كافة المجالات الأدبية حتى أن ذات مرة قال لي الراحل عبد القادر القط أن أمل يساوي من حصل على «2 دكتوراه»، كان يسهر ليلا في القراءة وينام نهارا حتى الساعة الخامسة عصرا.

وأذكر أنه أيام الدراسة كان مقرراً علينا كتابٌ صعبٌ في علم اللغويات لستيفن هولمان وعندما شكوت له من صعوبته قرأ الكتاب كله في الليلة نفسها وفي اليوم التالي شرح لي الكتاب كله جعلني أستوعبه تماماً.

كما ذكر أحد المواقف عندما قامت ابنته برسم شارب له على صورة لدنقل كنت أحتفظ بها وعندما شاهدتها ذلك غضبت جدا من ابنتى، وعندما شاهدها دنقل قرر بعدها أن يترك شاربه، كانت تلك الصورة قد التقطها له محمد النجعاوي مصور مجلة «المصور».

وذكر أيضاً أنه عندما صدر ديوانه الأول وذهبنا سويا لتسلم النسخ من دار الآداب البيروتية التي كان صاحبها الأديب المعروف سهيل إدريس وكانت بعمارة الأيموبوليا، وعندما التقينا به قال لنا أن الرقابة اعترضت على إحدى القصائد وهي «صفحات من مذكرات المتنبي في مصر» لأنها كانت هجاء في عبد الناصر وأخذنا نسخة واحدة، وبعد أسبوع علمنا أنهم عرضوا الديوان على عبد الناصر شخصيا ووافق عليه.

كتب دنقل بالإضافة لدواوينه المنشورة ملحمة شعرية بعنوان «الموت في الصحراء» لم ينشرها تناول فيها معاناة المصريين في حفر قناة السويس وعندما انتهى منها حلت نكسة 67، كما كتب مسرحية شعرية عن الحاكم بأمر الله الفاطمي لكنه لم ينشرها أيضاً.

كما كان دائماً ما يقرأ عليَّ بعض القصائد العاطفية وأنا أسير معه في طريقنا للمقهى أو نوادي الأدب التي كنا نذهب لها وكلما أطلب منه جمعها في ديوان كان يرفض أن ينشرها لكن أكاد أزعم أن إلحاحي عليه هو السبب في ظهور ديوانه العاطفي الوحيد وكان الثالث في دواوينه وأسماه «مقتل القمر». قائلا في نهاية حديثه رحم الله أمل دنقل الذي رأيته في حياته ورأيته بعد موته وأعلم يقينا أنه في الجنة.

■ عن اليوم السابع