الزاوية الصحفية.. إذ تتحول إلى دفتر دوام!!
الثبات النسبي لموقع وشكل وكاتب الزاوية الصحفية، يخلق مع الزمن علاقة مع القارئ ثابتة نسبيا، يحددها مستوى ما يقدمه كاتب الزاوية. تتدرج هذه العلاقة من اعتبار الزاوية مركز الصفحة، إلى اعتبارها المكان الأقل أهمية فيها. ولكن بعيدا عن التشخيص، فالزاوية من حيث هي حرة من الحدث ومن تتبعه، ومن حيث هي مساحة للتعبير الحر عن رأي الكاتب في قضية يختارها، تتحمل مسؤولية
مضاعفة، فعلى هذا الرأي أن يكون ناضجاً ومكتملا ليستحق المساحة الثابتة الممنوحة له. ما نراه في معظم الصحف وبحكم كون كاتب الزاوية هو نفسه في الغالب محرر الصفحة، وباعتباره شخصية «مرموقة»، فإن الزاوية بتأثير من هذين العاملين، تتحول إلى دفتر مذكرات لكاتبها، وأحياناً إلى دفتر دوام يوقع عليه بمائتي كلمة يكتبها في ربع ساعة كيفما اتفق ...
البيروقراطية عدواً للإبداع ..
الميزة الأساسية والإشكالية لكل أشكال العمل الإبداعي، سواء كتابة أو تأليفاً وأياً كان مجالهما، هي كون العمل الإبداعي مزاجياً وذاتياً إلى حد كبير، وأكثر من ذلك فهو متفاوت المستوى، فحتى أعظم الكتاب يمكن أن يتدنى مستوى إنتاجهم بطريقة غير متوقعة. العمل الإبداعي وإن كان يستند في وجود إمكانيات ظهوره إلى واقع مجتمعي كامل الأبعاد، لكنه في النهاية يقدم عبر الفرد المبدع، وفردانية هذا المبدع ستجد شكلها للظهور وستؤثر تأثيراً هاماً وأساسياً في مضمون العمل الإبداعي، يمكن حل هذه المسألة جزئياً بتناوب الزاوية بين أكثر من كاتب (2 إلى 3 مثلاً)، لكن حتى هذا الحل غير كاف!!
ما الذي لدى كاتب الزاوية ليقدمه؟؟
تتميز الزاوية الصحفية بنفسها النقدي العالي، وفوق ذلك فإنها ولتحررها من الحدث، تمتاز بإمكانية وضرورة احتوائها لنقد عالي التجريد، يأخذ الخصوصية التي يختارها ويرفعها لمستوى نقد المشروع أو نقد التوجه أو نقد المدرسة. وهنا لا يمكن لكاتب الزاوية أن يمتلك هذه القدرة دون انضوائه في مشروع ثقافي حقيقي واضح المعالم، ولا نعدم الادعاءات في هذا المجال، فالمبرر الضمني لاستلام كاتب ما لزاوية صحفية هو امتلاك لرؤية مميزة في مشروع ثقافي، وهذه الفكرة بحد ذاتها هي موضوع لآلاف الزوايا الصحفية حيث لا يمر يوم دون أن نقرأ في الصحف نقداً ما ومطالبة ما بنهوض مشروع ثقافي حقيقي، لكن وبحكم يومية الصحف فإن التحليق في العموميات طوال الوقت ليس إلا دليلاً على خلو جعبة كثير من الكتاب من مشروع حقيقي يحاولون ملاحقة ملامحه في الخصوصيات، وتكوين قاموسه الخاص في رؤية للعالم...
ارتباط الثقافي بالسياسي
المشروع الذي يحوز أكبر كم من الطبل والزمر، هو المشروع الداعي إلى فصل الثقافي عن السياسي، على اعتبار أن السياسي مراوغ ومدعي في حين أن الثقافي صادق ومتطير ومحلق في سماء الأفكار الإنسانية العذراء. دعاة هذا المشروع سواء وعوا ذلك أم لم يعوه، فإنهم إنما يتخذون موقفاً سياسياً، في مصلحة المترفين والمتخمين الذين يريدون للأدب وللفن أن يكونا مسرحاً لتفريغ الشحنات الاجتماعية، ولاستعراض العضلات الأخلاقية للمفاهيم "المشتركة" لدى الإنسانية جمعاء، كالحب مثلاً وليس أي حب، ولكن الحب بأضيق معانيه وربما بأكثرها ابتذالاً، حيث الحب الجنسي أولاً!. ولا يجيبنا أصحاب هذا المشروع كيف لنا أن نحب الحياة التي لا تحبنا؟!، كيف لنا أن نحب الفنادق التي لا ندخلها، والأطعمة التي لا نأكلها، والطبيعة التي لا نراها إلا عبر التلفاز، والبحار التي نغرق بشبر من مياهها، والبيوت التي لم نعد نحلم بها، والحدائق التي نتطفل عليها وعلى مناطقها، والعلوم التي لا نتعلمها، واللوحات التي لا نفهمها، والأفلام التي لا تخصنا، والنصوص الأدبية التي تترفع عن مراعاة عقولنا الصغيرة....
ربما علينا أن نزهد بالحياة، وندور على كعوبنا، وندور وندور ونهذي ونرشق الدنيا بأمانينا ووصايانا وبؤسنا، ونرشقها بزوايانا الصحفية...