نـجوان درويش.. يروي سِيَر البسطاء
بنصوص كانت أقرب إلى النص النثري شبه المفتوح، وأكثر من كونها قصائد نثر، افتتح الشاعر الفلسطيني نجوان درويش، برفقة عازفة البيانو زينة عصفور، مهرجان «كلّنا.. وترانيم العودة»، الذي تقيمه دار الأندى في عمان بمناسبة مرور 63 عاما على النكبة.
تميَّزَت نصوص درويش بلغتها الهادئة البسيطة، وصورها الفنيّة والشعريّة، مع محاولاته بأن يصنع المفارقات في النّص، مُعتمدا على مبدأ قصيدة التوقيعة في أغلب النصوص، متّكئا على تسلسل النّص ضمن فكرة معيّنة ومحدّدة، حتى يختمه بجملة مُكثّفة تختزل الدهشة، تلك التي تخون النص أو المتلقّي أحيانا، إذ يكون الأمر ملتبسا على أحدهما، ليحول ذلك من دون إدراك الدهشة تماما، مثل قصيدته «مطار اللد»:
مقهى المطار شيءٌ آخر
حين يقعي أمامك تمثال «بن غوريون»
بشعره النحاسي الأشعث مثل ضبع التهم ما لا يحصى
من أهل تلك القرى التي كانت تجاور الشمس.
مقهى المطار شيءٌ آخر
حين تُغتصب الشمس مثل خادمة آسيوية
في الممرات..
لكن في نصوص أخرى، استطاع درويش، الشاعر المقدسي، أن ينجو بالنصّ والمتلقّي معا، ليصنع مفارقته التي حطّم فيها غطرسة العدوّ الصهيونيّ، وتفوق عليه في اقتراح جماليّ يسعى للنيل منه دونما صراخ أو خطاب مباشر، مبرزا جماليّات الشعب الفلسطيني، ومن القصائد التي قدّم فيها هذه المفارقة، قصيدة «نساء اللد»:
نساءٌ طويلات
من الخشب اليابس
لا تجد الذاكرة لهن تشبيهاً سوى الرمح
كن رماحاً تشرئبُ من الحافلات
حين يجئن لزيارة القدس.
كان هذا قبل قدوم مستوطِنات قصيرات
لا تجد الذاكرة لهن تشبيهاً..
سوى.. رصاص «الدُمدم»
تنوّعت نصوص صاحب ديوان «رسائل من سرّة الأرض» الصادر عن (دار الفيل – 2011)، في مواضيعها والجوانب التي تتناولها، فمنها ما كان يُحاكي الهمَّ الفلسطينيّ في ذكرى نكبته، ومنها كانت تتناول همّ ذاته الفردية، أو يستعرض هموم الإنسان في شتّى بقاع الأرض، مثل نصّه «إيرل غراي»، وهو نوع شاي آسيوي، تقطفه العاملات الآسيويات من حقولهم هناك، وهن ذاتهن العاملات اللواتي يعملن في البيوت في منطقتنا، مستحضرا فيها الروائي العربي عبد الرحمن منيف، في روايته «مدن الملح»، ومن النص:
اللواتي غرسن الشاي وقطفنه ليعلّب في صناديق «إيرل غراي» هل يسامحنني، حين أَشرب عذابات 300 سنة في كأس شاي؟
هل يسامحنني شقيقاتي المباعات بمائتي دولار في مدن الملح؟
ومرّ أيضا على العمال المصريين الذين يعملون في الأردن، بقصيدة عنوانها «عمال مياومة»، والتي يرتفع فيها حسّ الاشتراكية في رصدها لهواجس هؤلاء العمال، فكأنه في القصيدة نزل لينتظر عملا يجيئه وإياهم، ومنها:
نَفَسي أقصر من هذه السيجارة التي تحترق في يدك
مع ذلك سأنتظر
قلبي مطفأ أكثر من شمس الظهيرة
ومع ذلك سأنتظر
أحلب الأمل من ضروع هذه الشاة السوداء التي تسمونها اليأس
وأعرف كيف أنتظر..
عاين درويش الأمل بقصيدة جاء عنوانها بالإنجليزية Reserved أي «محجوز»:
حاولتُ مرةً أَن أَجلس
على واحدٍ مِنْ مقاعدِ الأَمل الشاغرة
لكنّ كلمة reserved
كانت تُقْعي هناك كالضبع
لم أَجلس، ولم يجلس أَحد
مقاعدُ الأَمل دائماً محجوزة!!