يدٌ في النار وأخرى في الماء
«يحتفظون بنا هنا وراء القضبان لنتعفن ويعذبوننا، ولكن ذلك رائع ومقبول لأنه ليس هناك أي فرق بين هذا العنبر وغرفة المكتب الدافئة. هذه فلسفة مريحة: لا تفعل شيئاً بينما ضميرك مستريح وتحس بنفسك حكيماً.. كلا يا سيدي، هذه ليست فلسفة، وليس تفكيراً، ولا سعة أفق، بل كسل وزهد، وأضغاث أحلام.. نعم! أنت تحتقر الآلام، ولكن لو أن أصبعك انحشرت في الباب، فلربما صرخت بأعلى صوتك!»
يكثّف الكاتب الروسي أنطون تشيخوف على لسان «إيفان دميتريتش» مريض الارتياب «المجنون» في هذا الحوار الموجه لمدير المستشفى في قصته «العنبر رقم 6» إحدى التناقضات البشرية التي تفرق بين التصورات النظرية عن الألم والموت وشتى المشاعر الجياشة الأخرى وبين معايشتها واختبارها بصورة مباشرة. في القصة الشهيرة يُتهم الطبيب بالجنون في النهاية، لأنه استمتع بصحبة مريض عقلي، ويجد نفسه حبيس العنبر ذاته، ليكتشف أن ليس سيان أن يعيش المرء في برميلٍ -على غرار الفيلسوف اليوناني الحكيم «ديوجين» الذي كان يتغنى به- أو منزلٍ مريح أو مستشفى للأمراض العقلية، وأن الألم قد يكون أحياناً كاوياً صارخاً وحقيقياً.
وبالرغم من أن الناس في الواقع لا ينتهون جميعهم في مشفى للأمراض العقلية، حتى يقتنعوا بصواب هذه الحقيقة، إلا أن الحياة لا تتوقف عن ابتكار الأساليب والطرق لإيصال دروس مماثلة، فالحرب السورية كانت حصتنا من الدرس، يعلم الفرق بين معنى الألم الحقيقي والتصورات المثالية عنه.
قبل السنوات الثلاث الماضية ظن الكثيرون، أنهم استطاعوا فهم واستيعاب حقائق الحياة الكبرى وفي مقدمتها الموت، إلا أن الحرب جاءت بمستوى آخر من الخوف والحزن والألم جعلهم يعيدون حساباتهم ويعترفون بأنهم لا يمتلكون إجابات شافية قطعية. كانت المعضلة معقدة؛ كيف يستطيع المرء أن يضع نفسه مكان الآخرين متقمصاً مشاعرهم وأفكارهم ومبررات سلوكهم؟ وهل هذا ممكنٌ طوال الوقت؟
برزت خلال الحرب السورية اتجاهات إعلامية، ركزّت على آلية: «تحويل الأرقام إلى أشخاص» المستمدة مما يعرف ب «قالب الوول ستريت جورنال» نسبة للصحيفة الأمريكية الشهيرة التي وضعته، والقائم على فكرة الانطلاق في بناء القصة الإخبارية من حادثة فردية مؤثرة، ثم الانتقال لتعميم تلك التجربة بغية إعطاء طابع شخصي للأحداث.
وبتطبيق تلك الآلية، لم يتعامل السوريون مع أرقام وإحصائيات فقط، بل سمعوا حكاية «أحمد الصغير الذي استشهد بقذيفة هاون، حينما كان يحمل حقيبته المدرسية الصغيرة»، وشاهدوا «فاطمة تقتل برصاصة قناص، وهي ما تزال تحمل كيس الخبز لأطفالها». هذا الشكل من التغطية الإخبارية والأحاديث اليومية للناس «تشخصن المآسي»، وتحوّل شرائح كبيرة من المجتمع إلى منكوبين بخسارة أطفال وجدّات وجنود، لم يلتقوهم يوماً، وتجعل البيوت مجالس عزاء لا تنتهي.
مع الوقت فقد الأشخاص قدرتهم على التأثر بما حولهم وبما يشاهدونه على الشاشة، تلك كانت آلية لحماية النفس من الجرعة المفرطة من الألم، بأخذ مسافة من الحدث، تصل أحياناً إلى إنكاره، حتى لو كان يحصل تحت شباك المنزل. في المقابل قد يعيد موت أحد الأقرباء والأصدقاء المرء إلى رشده، ويجعله يدرك حقاً ما معنى خسارة شخص واحدٍ فقط، ناهيك عن خسارة عشرات ومئات وألوف.
كل ذلك يعقد القضية، ويصبح السؤال عن معنى الإنسانية الحقيقي أعصى على الإجابة. يحتاج المرء للاحتفاظ بمسافة من الألم -إن استطاع- وأن يمنع نفسه من الغرق به، كي لا يفقد وضوح الرؤيا وعمليات المحاكمة، البسيطة منها والمعقدة، والضرورية لتحديد الأسباب والنتائج، وفهم التداخل والتعقيد في الظواهر من حوله، بغية الوصول في النهاية إلى تبني مخارج. لكن ذلك لا يجب أن يغدو مبرراً لفقدان روح التعاطف ومحاولات محاكاة ألم الآخرين، أو تبرير الاستهانة بخسارة النفس البشرية، وهذا يعني البحث الدائم عن الحلول الأكثر جذريةً وعمقاً لإيقاف المآسي، بدلاً من الغرق في دائرة مغلقة من مشاعر الرثاء والضعف والتباكي. ربما تكون تلك هي الإنسانية حقاً، أو ما يشبهها.