الفيسبوك.. سجنٌ افتراضيٌ كبير
ماذا كان ليحدث لو امتلك محمود درويش مثلاً حساباً على الفيسبوك؟ أتراه كان سيستلم لإغواء «نشر» كل فكرة صغيرة تخطر على باله؟ وماذا لو لم تحصد بعض أبيات مديح الظل العالي عدداً كبيراً من « الإعجابات» هل كان سيصرف النظر عن نشرها فيما بعد؟؟
تتحدى تلك المساحة الفارغة في الفيسبوك المستخدم، وتستنطفه وتلاحقه، كما لو أن خلوّها شرط يستوجب الإملاء، ربّما مرّ وقتٌ طويل منذ سُئل : بماذا تفكّر؟ ماذا يخطر في بالك؟ كيف حالك الآن ؟ لذلك قد يشعر بأنه من المعيب تجاهل السؤال والامتناع عن الإجابة!
لزر «النشر» في الفيسبوك دلالة خاصة، وليس الحديث هنا عن نشر الروابط والصور والمعلومات وإنما النشر العلني للأفكار والمشاعر والمواقف السياسية والتجارب الأدبية أو الشعرية، ذلك أن زر النشر هذا يعبّرُ عن توقٍ لمعرفة الأثر المباشر الذي تتركه أفكار الشخص وآراؤه في الأخرين، والحاجة الملّحة للحظي بالقبول الاجتماعي أو السياسي، وتلمّس رجع الصدى للكلمات عند الجمهور المحتشد من الأصدقاء الفيسبوكيين.
لكن هل يختلف ذلك عن مشاركة الأفكار والمشاعر في الحياة الواقعية؟ وهل يكون لتلك الأفكار أية قيمة إذا ظلّت حبيسة العقول التي أنتجتها؟ أم أن الإجهار بها على الملأ هو السبيل لتحريرها وإعطائها فرصة التطور والتغيير والتأثير بالآخرين؟
ربما يكون «نشر الأفكار» في الحياة الواقعية والافتراضية، واحداً من حيث المبدأ، إلا أن هناك اختلافات هامة تميّز بين شكلي التعبير، فالإنسان في حياته اليومية غالباً ما يكون أكثر صبراً ورويةً في إعلان أفكاره أو التصريح بآرائه السياسية على الملأ ( إذا استثنينا نوبات الغضب) بعد أن يخضعها لسلسلة من المحاكمات العقلية قبل أن تترجم كلاماً وهو الأمر الذي ربما لا يحدث دائماً أمام الرغبة بشغل المساحة الفارغة في الفيسبوك، كما وأنه نادراً ما يحظى المرء بجمهورٍ عريض يستطيع أن يوصل إليه أفكاره وقناعاته بشكل مباشرٍ فوري، متجاوزاً بذلك حواجز الزمان والمكان والعوائق « الطبيعية الأخرى».
وفي الكتابة الأدبية الأمر مشابه: فالكتاب والشعراء غالباً ما يختبرون أسلوب الكتابة وإعادة الكتابة، التنقيح، التعديل والإضافة تجميع التفاصيل والأفكار والمشاهدات لاقتناص اللحظة المناسبة لتوظيفها، لتكون الكتابة الأدبية بذلك عملاً تراكمياً صبوراً يستغرق أحياناً عشرات السنين حتى يتم إنجازه و»ينشر على الملأ».
إحدى مخاوف التعامل مع الفيسبوك (والتي قد يكون مغالياً في تقدير حجمها الحقيقي): أن المرء قد يعتاد مع الوقت تفصيل أفكاره على مقاس الفيسبوك، جملٌ قصيرة، آنية، مبعثرة، عجولة. تكرّس بصورةٍ جديدة حالة الضياع والتشرذم والقلق التي يعيشها الناس اليوم. كما لو أن الأمر يتكرر دوماً بصورة تقارب الحلقة المفرغة لإشباع الحاجة الإنسانية (الدافع- الحاجة- الفعل- اشباع الحاجة- خلق حاجة جديدة) فهو يشعر أمام المساحة البيضاء الفارغة بحاجة لملئها لأن في ذلك تعبيراً عن تفاعله مع الآخرين، فاعليته، وبالتالي وجوده، وتترجم تلك الحاجة إلى جمل وعبارات تفقد بعد نشرها قيمتها الحقيقة حتى بالنسبة للذي قام بكتابتها وقد ُتنسى بعد عدة ساعات فقط. ومع إشباعه لرغبة البوح العلني التي لا تستمر لوقتٍ طويل، يعود من جديد الشعور بالقلق والحاجة لقول شيء ما، شيء جديد آخر، وهكذا ..
في الوقت الذي تصدّر فيه مواقع التواصل الاجتماعي كمساحة للتنفيس والتخفيف من الضغوط اليومية، أو فرصةً للهروب من الواقع والتواصل مع الآخرين في الوقت الذي غابت فيه منافذ التواصل الاجتماعي المباشر كنتيجة مباشرة لغياب الأمن، قد تتحول تلك المواقع إلى سجونٍ كبيرة تأسر مستخدميها وتراكم لديهم مزيداً من القلق غير المعلن ومشاعر عدم الرضا عن الذات، والرفض من الآخرين. وهو الأمر الذي يثبته إصرار العديدين على الاستمرار في استخدامه بصورة مكثفةّ حتى بعد مشاكل انقطاع الكهرباء، وبطء سرعة خدمات الإنترنت ( عند استخدام الفيسبوك تحديداً). كما لو أنهم يجاهدون للهرب من الواقع الذي يعيشونه ليقعوا مرّةً أخرى أسيري مشاعر الإحباط والقلق التي كانوا يتوقون للخروج منها في المقام الأول.