أغنية ناقصة ترنو إلى الكمال
(أغنية ناقصة) مجموعة شعرية للشاعر عبد الحميد مراد وهي مجموعة أنيقة رسم غلافها الفنان زهير حسيب، اللوحة تعبر عن جمالية عالية.
الشعر لغة من البوح والإيماءات والصور الشعرية، لغة كشف وعلاقات لوحات بلوحات لا تعرف، الشعر عالم من الكلام والجمل الجميلة، وهو إدهاش يجعل المتلقي يسرح ويتعمق في دنيا غير معروفة له سابقاً، الشعر علاقة للولوج في الوجود الكلي عبر الحضرة والمقام، هو الأشياء كلها، هو الفرح الغامض الرائع، لغة لا يتقنها إلا الشاعر المبدع الذي يبدع أشياءً لا يبدعها غيره، وليس الشعر الألفاظ المرمية على قارعة الطريق، ولا هو اليومي المعبر عن الآمال والآلام، وجماليته لا تنبع من التجاوز والحدث أو الكلام الذي لا معنى له المستهلك كما يطرح بعض النقدة، أو كما طرحوا خلال ما قدموه من حديث ومقالات منذ سنتين إلى الآن، هل التجاوز يصنع شعراً؟ هل التقارب يصنع شعراً؟ هل رصف الكلام الذي نقوله يومياً يصنع شعراً؟ لا أدري أي ذوق هذا! هل اليومي يصنع شعراً؟ وليثبتوا وجهات نظرهم يصنعون المستحيل ــ استحي أن اصف ذوقهم فعلاً.
الشعر كما اتفق على تسميته وأبعاده ومساحاته ومسافاته هو الرؤيا والصورة الشعرية وكيفية تقديمهما للقارئ وكيفية ربط الألفاظ والجمل لتنتجها.
أغنية ناقصة هو الديوان الثالث للشاعر عبد الحميد مراد يضم ثماني وعشرين قصيدة، اعتمد فيه على شكل القصيدة الحرة، وهذا الشكل برأيي هو الشكل الأرقى بين الأشكال الشعرية الثلاثة، العمود، التفعيلة، والقصيدة الحرة التي دعيت خطأ بقصيدة النثر،ـ أي أنه اعتمد على الحداثة التي تتخطى الجمود والقيود والسدود التي عند الشكلين الآخرين، والقصيدة الحرة تقتضي وجود:
التكثيف، الابتعاد عن العادي، وجود الصورة الشعرية، التخلي عن الصفات، تخطي أدوات الربط، العناوين المنطلقة وغير ذلك. فماذا نجد عند الشاعر في ديوانه؟
العناوين عنده عادية لم تستطع أن تجاري الحداثة في العنونة، فالعنوان هو جزء من القصيدة يرتبط بها ويرفع من شأنها إذا استطاع انتقاءه بشكل جيد، وإلا يصبح عنواناً عادياً وليس موحياً. أكثر عناوينه تعتمد الكلمة الواحدة المعروفة. عنده عنوانان جميلان ساهما في رفع سوية القصيدة، هما ممتلئ بالدهشة، بين أوراق الزمن.
أما عن الغنائية فعند الشاعر غنائية لا بأس بها، ولا توجد في قصائده جمل مرتبكة أو جامدة أو صعبة ولا ألفاظ لينة، ولا يوجد عدم تدرج أو تسلسل يزعج القارئ، والغنائية في الشعر ليست ممجوجة إلا إذا كانت مع الصورة الشعرية السطحية وهي عند الشاعر ليست كذلك.
أما الجملة الشعرية عنده فهي قصيرة أيضاً فهي أحياناً لا تتجاوز الكلمة. وفي كل القصائد هناك تكثيف للجملة الشعرية، فنقول إن الشاعر يمتلك لغة الحداثة المطلوبة في القصيدة الحرة التي تعتمد على التكثيف.
يعتمد الديوان في كتابة قصائده على الصورة الشعرية العميقة، وهناك الكثير من هذه الصور سنورد منها بعض الأمثلة: فقد جاء مثلاً من قصيدة ضجر:
في عتمة الغياب
أطوق المدينة بتراتيلها
أرمم.. قلعة تسكن جسدي
كم في هذه الصورة من توغل في أبعاد المدينة وتطويق عبر تراتيلها وأغانيها وترميم لقلعة مغلقة تقيم في الجسد، الذي يحمل كل هذه القيود ويسير بها إلى أمكنة غير معروفة.
ويقول في ص13 من قصيدة ممتلئ بالدهشة:
أبكي ضجراً
فالصمت يجر البحار
يخرج من معاطف الظلمة..
صورة شعرية تثير الخيال وتأخذ القارئ إلى مسافات بعيدة، السكون يجرف أي بحر، إذاً فالصورة تحيط بهذا المشهد الذي لا نهاية له.
أغنية ناقصة ديوان جدير بالقراءة للتمتع بجمالياته الشفافة.. في النهاية نورد هذه القصيدة لتكون معبرة عما ذكرنا عنه (عند وداع النهار):
عند وداع النهار
كانت شواطئ المدينة تبسط أمواجها
للكلمات العابرة
لتحضن امرأة
تحمل بين إبطيها ربيعاً..
حينها ابتسم الليل
مع عاشقين كانا بالانتظار