بين قوسين: صحراء اللغة
نادرة تلك النصوص التي تقوم على نفض الغبار عما لحق باللغة من انهيار وتآكل لتعيد تشكيل الذائقة على هواها متجاهلة الالتفات إلى الخلف والغرف من حساء الأمس. هناك من اخترع مائدة مدهشة من الكلمات بدليل أننا نتوقف رغماً عنا عند تخوم عبارة ما نختبر نكهتها وتوابلها السرية ونهتف بحماسة «كيف حدث هذا؟ أليس هو المعجم نفسه الذي نستعمله منذ قرون؟»، هناك إذاً مشتل سري للنباتات التي لا تتأثر بحركة الفصول أو أنها تجدد نسغها نهاراً وراء آخر: لماذا نعيد قراءة كتاب أكثر من مرة؟ أو نحتفظ بقصاصة ما في أدراجنا؟
أحياناً بإمكان القارئ أو المستمع أن يكمل جملة الآخر قبل أن تنتهي لأن هذه الجملة بكل بساطة تتكرر بالطريقة عينها على الدوام، وتالياً فإن ما نتصنع الإنصات إليه هو مجرد تواطؤ لغوي أو قتل للضجر. كان ماركيز قد أشار مرة إلى أن الكتاب الجيد هو الذي يبدأ بجملة صحيحة وإلا لا أمل في إكماله. لنضع إذاً مئات الكتب جانباً ونفتش عن كتب أخرى تبدأ بجملة صحيحة. جملة تصيبنا بالدوار مثل حب مباغت. جملة نضعها بين قوسين كتميمة أو تعويذة تحمي أرواحنا من الفناء. لعل هذا ما أبقى على أشعار المتنبي بوصفها طيوراً عابرة للأزمنة، أو على نثر أبي حيان التوحيدي. عبارة تنبثق من العتمة فتضيء الداخل مثل زوادة طريق في صحراء.
اللغة إذاً يمكن أن تكون صحراء أو غابة لكننا في واقع الحال كثيراً ما نغوص في الرمل ونشكو العطش ونكاد نصرخ «أرجوكم نريد جملة مفيدة».
لنزيح جانباً ما أهملته القواميس ونكتشف لغة أخرى لا تحتوي على سقط الكلام، لغة تتجول في شوارع اليوم كما لو أنها في نزهة لقد أصابنا الإنشاء بالضربة القاضية وعلينا أن ننجو ولو قليلاً من هذا الركام. خففوا الوطء عن الحكم والأمثال واذهبوا إلى المتن مباشرة فالوقت لم يعد مناسباً للتوطئة والتمهيد والمقدمات النافلة. هناك فرق بالتأكيد بين سفينة الصحراء والطائرة ولكن لماذا يراودني الإحساس كثيراً أن بعض الكتاب مخلصون لثقافة البعير حتى وهم يركبون الطائرة للمشاركة في ندوة عن العولمة وعصر الصورة مثلاً؟
كان الشاعر وديع سعادة اكتشف عبء اللغة المستعملة باكراً فذهب إلى أسئلة أخرى لتركيب حياة شخص آخر، يجد في لغة الصمت ملاذه ومبتغاه، وأشار إلى أننا نعيش «على حمالة لغة مريضة» وينبغي أن نقف على حافة اللغة كي نكتب صمتنا وننصت بإمعان إلى الإيماءة العابرة، حتى أنه تساءل مرة «هذه العاصفة في الرأس كيف لا تحرك غصناً» وكذلك «مشيت طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرت في وهمها»، و«في النقطة الممحوة يولد كوننا».
ويمضي إلى القول باطمئنان «ليس لدينا لغة، لدينا حشرجات، من لغة قتيلة، غابرة».
لعلنا نحتاج اليوم إلى من يلتقط «شذرات الذهب» ويلقي بالركام جانباً فاللغة ككائن حي تحتاج هي الأخرى إلى عمليات جراحية عاجلة كي لا تقع في الزوال والهباء والبلاغة الجوفاء.