الوطن والمواطنة بين حدين..

في وقت تقع فيه «الدولة» بين فكي كماشة، حداها الإسقاط والفساد، وتتآكل بنيتها وتكتوي بنار جحيمٍ وقودها «شعب» ومحاولة توسيع مسافات الانقسام بين أبنائه تحت وطأة الشعارات المتطرفة وأوهامها، وفي وقت تضيع فيه رسمة الوطن بضياع أركانه – الدولة والشعب والجغرافيا- نجد من يقف على عتبات هذا الضياع ويحاول استغلاله بشتى الوسائل والشعارات المتباينة في شكلها والمتماثلة في مضمونها.

في وقت لا تضيق فيه مساحة العيش الكريم وحسب بل تضيق فيه حتى مساحة العيش نفسه – البقاء على قيد الحياة - للأغلبية الساحقة من السوريين ، يصبح من السهل على ثنائية «نظام – معارضة» الوهمية العبث بتلك الحدود التي تنظم العلاقة بين المواطن ووطنه، علاقة يحاول البعض رسم حدودها عبر شعاراته الجوفاء تارة والمجردة تارة ً أخرى.

تتشوه ثنائية الحق والواجب بين من يحاول تجسيد العدو الاول بـ «الإرهاب» فقط كعدو لسورية وطناً وشعباً، ومن يذهب لاعتبار «القمع الأمني» الأداة الوحيدة لانتهاك حقوق المواطن، ويتشوه معها ما تبقى من ركام كل منهما  في الوقت الراهن .

ارتباط عضوي...

يستمر البعض في الاعلام اليوم وعبر بعض القنوات الرسمية أو غير الرسمية في اختزال معاناة سورية الوطن بعدو «خارجي» يتربص بها، والخلاف هنا ليس على حجم هذا العداء أو وجوده، بل في محاولة إعطائه بعداً جغرافياً أو حدودياً واعتبار كل ما يعانيه السوريون اليوم وسابقاً هو فقط نتيجة ذاك العدو وحجم تدخله في الوطن، وهذا ما يخالف النظرية والواقع إلى حد كبير خاصةً أن مفهوم الاستعمار قد تجاوز شكله التقليدي الذي يقتصر على الاستعمار العسكري المباشر ليأخذ أشكالاً أكثر تطوراً، منها الاستعمار الاقتصادي مثلاً، والذي كان لقوى الفساد دور كبير في فتح بوابات العبور «الاقتصادية» له، التي لا تختلف نتيجتها كثيراً عن بوابات العبور العسكرية   التي تشهدها سورية اليوم، فالتدخل «الخارجي» استراتيجية فرضتها حقيقة الاستعمار والأطماع الصهيو- أمريكية ، لكن الواضح اليوم هو محاولة بعض أطراف النظام توظيف هذه الحقيقة باعتبار أسباب الأزمة تقتصر على «المؤامرة» أو «الإرهاب» بشقه الخارجي دون ربطه بربيبه الداخلي الذي لولاه لما استطاع المتآمرون الوصول إلى مبتغاهم، فالإرهاب بارتباطه العضوي مع شبكات الفساد يشكلان عدواً واحداً لجهاز الدولة وليست محاولات فك ذاك الارتباط – ومن كلا طرفي الأزمة– سوى تشويه أحد أركان الوطن (الدولة)، ليتبعه لاحقاً تشويه منظومة الحقوق والواجبات التي تربط بين أركان الوطن بعضها ببعض (علاقة الدولة بالشعب) بذلك يصبح من اليسير على القيمين على الإعلام محاولة إحياء ذكريات المواطنة الجميلة واختزالها بمفهوم «الأمن والأمان» بمعناه الضيق - متى سيكف هؤلاء عن الاستهزاء بالعقول واعتبار مصطلح الأمن على المستوى الفردي والاجتماعي يتجاوز بكثير همّ التجوال «الليلي» وحرية التنقل بعد منتصف الليل..!

على الضفة الأخرى..

 بينما يغرق الطرف الأول في محاولة تشويه مفاهيم الوطن والمواطنة عبر توظيفها أو اختزالها تذهب بعض فرق المعارضة إلى تجريد تلك المفاهيم وتحريرها من مضامينها الحقيقية «الحرية والدفاع عن حقوق الوطن والمواطن» لتكون النتيجة أن تضيع  تلك المفاهيم في غياهب التعميم والتمييع على حد سواء .

تسود قنوات الإعلام المعارض والفضائيات الداعمة له اليوم كلمة «الحرية»، باعتبارها معادلاً كافياً لمنظومة حقوق المواطن، دون أي حاجة لإيضاح مضمون وماهية تلك الحرية وأبعادها، فتقتصر  تبعاً لأدبيات هذا الفصيل من الإعلام على «حرية التعبير»  مثلاً.

يتناسى رافعو تلك الشعارات العامة، خاصةً بشكلها المجرد المثير، تلك التناقضات الفعلية  التي يعانيها المجتمع، كالفوارق الاقتصادية – الاجتماعية والتي تفرغ الحرية السياسية من مضامينها، وتكون النتيجة أن تشكل مثل تلك العناوين العريضة باعتبارها «شعاراً كافياً للتعبير عن حق المواطن» حاجزاً يحول دون فهم مضمون الحق المبتغى وبالتالي ضياعه – هل يستطيع بعض المدافعين عن الحرية بهذا المعنى البحث في الفرق الهائل بين حرية أرباب العمل وحرية أصحابه ودرجات التضارب بين مصالح كل منهما ..!؟. 

تبدو محاولات بعض أطراف المعارضة في تجريد الحرية أو اختزالها في بعض أجزائها، كحرية التعبير على أهميتها،  تكريساً لضياع حقوق المواطن على عكس ما يدّعون، ومن يحاول خلق لحمة وطنية هشة عبر خلق عدو أو تقزيمه من خلال العناوين البراقة هو دون أدنى شك يحاول إغراق الوطن بإغراق أركانه وتشويه علاقة كل منها بالآخر.

معادلة من حدين

ليست علاقة المواطن بوطنه مجرد تواجد ديمغرافي لكائنٍ حي ضمن بقعة جغرافية وعليه فالإرهاب ليس بالعدو الوحيد الذي قد يبعد هذا المواطن عن انتمائه لذلك الوطن، والعدالة في استرجاع الأرض المغتصبة والمحتلة، لا يقل شأنا عن العدالة في استرجاع حجم العمل المنهوب واستغلال أياً منهما هو انتهاكٌ للوطن والمواطن على حد سواء .. 

كذلك الأمر لمن يعتقد بأن «حرية التعبير» هي معادل كاف للتعبير عن جملة حقوق المواطن وكرامته ، خاصةً وأن القمع الأمني ليس الأداة الوحيدة التي قد تمارسها سلطة لانتهاك حقوق مواطنيها ، فالحق الذي قد يغتصب بالهراوات يمكن أن يغتصب مثلاً عبر تثمينه ليغدو سلعة لا يتمتع بها سوى من يستطيع شراءها.... 

وكما يقول الشاعر المصري هشام الجخ: «تبقي إزاي إنت هبة النيل يا بوبة وكل يوم المية تقطع..!؟  يعني إيه لما اشتكي غلوّ الفاتورة... يقولوا تشكي.. بس ... (تدفع)..».