حكايا ألف ليلة وليلة: بين جهنم والجنة ....قلبة...
عبير عبد الله عبير عبد الله

حكايا ألف ليلة وليلة: بين جهنم والجنة ....قلبة...

في صباح يوم شتوي تفوح منه رائحة المازوت وتنتشر عطوره الرائعة لتسكن زوايا المكان ... خرجت كالمعتاد من بيتي الدافئ قاصدة عملي وكالعادة تنتظر السرافيس الركاب في الكراجات، بكل حب وود (لا تدفيش ولا سباق ضاحية).

صعدت كباقي الناس والابتسامة تملأ وجهي، وتفيض من وجوه من حولي ... لم تعد أرجاء الوطن الحبيب تتسع السعادة والهناء والراحة ، وربما سنضطر لتصدير قسم منها للخارج. وبدأت حكايا  الحواجز اليومية:

في الحاجز الأول: بادرنا الشاب الظريف: صباح الخير يا شباب اللي معو سلاح ينزل، وابتسم الركاب فقد اعتادوا ظرافته اليومية، كما اعتادوا تواجده كل يوم واقفاً في المكان نفسه.

 الحاجز الثاني: فتح باب الباص وأطل وجه غاضب، وبنظرة إزدراء، صرخ بالسائق: «امشي يللا» ... لم نكن نعلم سبب غضبه الصباحي، ولكننا كنا متاكدين أنه من الأفضل لنا أن نمضي بسرعة قبل أن ..

الحاجز الثالث: بادرنا وجه يائس: مرحبا يا شباب.. ورد الجميع بصوت واحد: (أهلين، يسعد صباحك). وأكمل ببرود: «هوياتكن إذا سمحتوا وإذا ما سمحتوا نفس الشي، ما بتفرق كتير».  كالعادة لم أحرك ساكناً، كوني سيدة ونادراً ما تُطلب هويتي، ولكن فوجئتُ به يكلمني: وأنت أين هويتك ألا تعلمين أن الجيش الحر تقوده نساء أحياناً !! بابتسامة صفراء، ناولته هويتي، أمسكها بيديه ونظر إليها بحاجبين مقطبين، وهنا كانت الكارثة!! شعرت للحظة بأنه سيخرج مسدسه ويفرغه في رأسي، والمصيبة الأكبر عندما بدأ الناس يتهامسون (أكيد مندسة)، بدأ العد العكسي لدقات قلبي، وأيقنت أنني سأخرج في نزهة طويلة!! ولكن فجأة، وفي اللحظة التالية تغير كل شيء، فقد قلب الهوية على وجهها الآخر، وتغيرت قسمات وجهه ونضحت بارتياح مشوب بالفرح، وقفزتُ من جهنم إلى الجنة؟؟!! وخرجت من فمه كلمات مرتبكة: «على راسي، على راسي، أمانة ما تواخذينا..». لم أفهم للحظة مالذي حدث ولماذا كنت قبل دقيقة من المغضوب عليهم، وكيف تحولت فجأة إلى مناضلة. وأدركت بعدها السبب الذي أوجعني كثيراً!  الوجه الأول لهويتي كان يحمل اسم البقعة التي لم أرها في حياتي رغم أني ولدت فيها، بلدة لا أعرف منها سوى اسمها، وأعرف الآن أن مجرد ذكرها قد يعبد الطريق إلى جهنم، على هذا الحاجز، بينما الوجه الآخر يحمل اسم بقعة أخرى من بلدي ذاته، لم أختر الانتماء إليه، ولكنه أنقذني الآن، على هذا الحاجز، وقد يكون سبب هلاكي على حاجز آخر، لم يكن ذنبي أني ولدت في ذلك المكان، وليس ذنبي أنني أنتمي  للمكان الآخر، والأنكى أنني أسكن مكاناً ثالث من بلدي.

ولم تكن سوى، قلبة صغيرة، بيد رجل شبه نعسان، تحولت فيها بقدرة قادر، من الشر الى الخير، من الظلام الى النور، من الاندساس إلى التشبيح، وأنا ذاتي في كلتا الحالتين بنت هذا الوطن، لم أشعر يوماً بالانتماء لشيء سوى وطني .. سوى لأولئك الذين أكلهم البرد وثقلت مصاعب الحياة عليهم، تحملهم الباصات كل يوم، من أي بقعة كانت وإلى أي بقعة يمضون، ومهما كان الحاجز الذي يمرون به، مازالوا يتأملون، وينتظرون انتهاء الأزمة، هؤلاء فقط أشعر بهم وبالانتماء إليهم.

الحاجز الأخير:  للفرحة لم يكن هناك أحد على الحاجز، فالشباب ركضوا وراء سيارة غاز، وصفروا لها، من أجل أن يفتشوا!! ... يجب ان نتأكد من أنه غاز وليس شيء آخر، (وبالمرة، منبدل هالكم جرة اللي جنب الحيط) وهنا تنتهي رحلتي الطويلة وأنزل من السرفيس، وتبدأ رحلة المشقة والعذاب لسيارة الغاز التي ستعاني في كل حاجز من تصفير وتلطيش كفتاة صغيرة جميلة، ليس لجمالها بل لتبديل ما فرغ من جرات الغاز المركونة بجانب الطريق.