جدارية درويش (1-2): السَّفَر في سِفْر التاريخ والحياة والموت
أبداً مفرشه صهوة القصيدة وقميصه مسرودة من حديد التحدي والكبرياء.. هكذا كالمتنبي يطل محمود درويش مضرجا برموزه وكنوزه.. بعذابه وعذوبته.. بخيط الجرح المكابر.. و يرمم بعضا من خرائب الروح ويسدل على ذاكرة النسيان ستائر الذكرى.
أنا الآن أمام «جدارية محمود درويش» وقبل ذلك كنت مع «لماذا تركت الحصان وحيدا» و«سرير الغريبة». ومنذ شبابي الآفل وأنا متابع هذا الشاعر الاستثنائي.. و مازلت أذكر و أردد: «سدوا علي النور في زنزانة/ فتوهجت في القلب شمس مشاعلي».
كما أذكر: «هل خر مهرك يا صلاح الدين... هل هوت البيارق؟/ هل صار سيفك.. صار مارق؟».
و كنت أقرأ بشغف «بطاقة هوية» و«عابرون في طريق عابر» و«سنة أخرى».. إلخ.. وبذلك أكد لي:«أن الحياة تصبح أقل جدارة بأن تعاش إذا خلت من الشعر» حسب روزنتال.
الكثيرون من قبلي ومن بعدي علمهم درويش حب الشعر وحب التحدي وحب الحياة فهو إحدى قلاعنا الشعرية و هو «خيمتنا الأخيرة»، «نجمتنا الأخيرة».
في «الجدارية» يخفت التوهج الثوري الذي عهدناه في قصائده السابقة في مرحلة ما قبل «لماذا تركت الحصان وحيدا». ترى هل للزمن دور؟هل للمكان دور؟ هل خفت وخفتت المعاناة التي هي وراء كل إبداع عظيم ؟! ومن هنا قيل: «إن روميات أبي فراس كانت نعمة على الأدب العربي ونقمة عليه»، ودرويش نفسه يؤكد في إحدى مقالاته «أنقذونا من هذا الشعر»: «إن الفرح العظيم والحزن العظيم وحدهما يصنعان شعرا..». لكن كعادته المعهودة والمحمودة يستنفر كل طاقته التعبيرية فيمزج اللغة بالرمز والتاريخ والأسطورة والغنائية والملحمية بكل ثقة واقتدار.. فإذا القصيدة سفر في سفر التاريخ غابرا وحاضرا وفي ثنائية الموت والحياة.. والعدم والوجود.. والفناء والخلود.
قرأت القصيدة مرارا و سأقرؤها تكرارا.. فاستوقفتني أربعة أقانيم حوارية هي: المرض، الموت، الحصان، السحاب.. في مقاطع المرض يستخدم تفعيلة المتقارب «فعولن» ومن خلال المنولوج نتعرف إلى البيئة المحيطة: طبيب يثير الامتعاض.. تداعيات بعيدة: أب مغمى عليه.. شباب مغاربة.. رفاق يخيطون كفنه.. والمعري الذي يطرد نقاده من قصيدته.. ومن البعيد تفوح رائحة الخبز «فمازال تنور أمك مشتعلا والتحية ساخنة كالرغيف». أما الموت فيبدو معه الشاعر في غاية الدماثة واللطف.. حيث يدير معه حوارا هادئا طالبا منه التمهل ريثما ينهي قراءة «طرفة بن العبد» و يتلو كل وصاياه ويلملم أدواته الشخصية متسائلا عن أحوال المناخ هناك في الأبدية البيضاء. وطبيعة اللغة السائدة أهي دارجة أم فصحى..؟ طالبا منه عدم الغدر واستغلال نقطة الضعف.. محذرا إياه من التدخل في شؤون قصيدته.. إلى أن يقول: «هزمتك يا موت الفنون جميعها».
بهذه الجملة الشعرية كثف الشاعر في جداريته ما حاول أن يقوله بأساليب متنوعة على مدى هذه القصيدة _الديوان_ كما جاء في الغلاف الأخير.
إن هذا ذكرني بقول أحد الشعراء الإنكليز: «ما من أحد يستطيع القفز فوق ظله ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت». وبذلك يتآلف ويتحالف مع الموت.. من دون أن يخاف أحدهما الآخر.. فبينهما «إمتاع ومؤانسة» وبكل بساطة يحدد الشاعر مساحة المكان التي سيشغلها.. يقول: «لي متر و75سنتمترا» ويبدو لي التناغم والانسجام بين هذه الجملة وعنوان القصيدة فكأن «الجدارية»هي شاهدة قبره المنتظر.
ومن محاورة الموت إلى محاورة الحصان_كما فعل مالك بن الريب وعنترة_طالبا منه أن يحك بحافر الشهوات أوعية الصدى.
كما إن حواره مع أنكيدو لا يقل روعة عن حواره مع السجان الابن المكلف بحماية المدينة من نشيده.
إذا.. لكي يستطيع الشاعر مجابهة الموت يلوذ في قصيدته بالرمز والأسطورة والتاريخ كما فعل معظم شعراء الحداثة كالسياب وحاوي وأدونيس...
فأوزوريس هو من أعظم آلهة المصريين القدماء قتل ورمي في النيل ثم بعث بفضل زوجته إيزيس..فأصبح رمز القيامة لكل حي.
وكلكامش في الملحمة البابلية يبحث عن سر الخلود.. وأنكيدو البطل الأسطوري رافق كلكامش وشاركه في مغامراته، وهناك أسماء أخرى مثل:امرؤ القيس_مجنون ليلى_قابيل_أيوب_لوط...