الحصاد
في الجانب المقابل للقراءة تكمن قوى خفية، قوى تدفعنا أحيانا إلى الجزم والقطع بجودة العمل أو جماله، هذا ما يحاول فعله بعض النقاد تجاه الأعمال التي تستثيرهم جماليتها، العمل هنا سيكون رائعاً لروعة الاقتصاد في الحكي، أو لسلاسة توليد الحدث، أو لأناقة السارد في الحركة داخل العمل، طبعاً الأحكام القيمية المصاحبة لوصف العناصر المكونة للعمل من قبيل: (أروع.. أجمل..)، قد لا تجد مكانها في الحديث الرسمي، لكنها تكون ضرورية لفتح المجال أمام الكتابة وكشف ألعابها، ما نعنيه قبل استرسالنا يتعلق بالجوانب المضيئة في أية قراءة، فنحن نذكر أحياناً أجزاء دون أخرى من رواية ما بعد قراءتها، وربما ستتقلص حدود العمل في ذاكرتنا بعد فترة طويلة لتتحول لمجرد ملامح لشخصيات وبعض الأفعال، قد ننسى أحداث القصة لكن وجوهاً ابتكرتها مخيلتنا أثناء القراءة ستظل
حاضرة بأي شكل، وهذا لا يعني بشكل قاطع أن هذه الأجزاء فقط تمثل الوعي الفني أو الجمالي للعمل، ربما سأكتفي بوصفها بأنها تدعم قراءتي الشخصية وقراءة بعينها، ذاك أن قراءتي لا تتكرر حتى للعمل نفسه، من هنا تظهر قدرة العمل مثلاً على تقديم المواقف الإنسانية والعبارات الفلسفية والأفكار المثيرة، فبعد أن يستهلك العمل وقتاً كثيراً عبر مساحات طويلة في توجيه شخوصه وأفعالهم داخل إطار الحدث أو الأحداث المفترضة يصل (العمل) لمرحلة الحصاد وهي المرحلة التي اعتدنا حضورها في الأجزاء الأخيرة مـن القصة، الحصاد هنا كما نعني يتمثل في طرح شعارات العمل أو أفكاره إن جاز التعبير بعـد أن مهد لها.
فبعد انقضاء زمن ليس بالقريب عن استمتاعي برائعة دستوفسكي «الجريمة والعقاب» أعترف بأنني لم أعد أحتفظ في ذاكرتي بأجزاء كبيرة من الرواية، لكنني أذكر جيداً، كما تخيلت طبعاً، ركوع راسكولنيكوف أمام سونيا قبل أن يحدثها عن آلام البشر الكامنة بداخلها..
بعد مرور هذا الوقت لا أظن بأن روعة العبارة أو عمقها الإنساني كانت وراء صمودها بين كومة أشيائي القديمة لدرجة أنها باتت تمثل ملامح الرواية في مخيلتي، كما أن ظهورها بشكل مميز في لحظة تلقي محددة لا يعني تميز تلك اللحظة فقط، هذه المرحلة من الرواية كانت دون شك نتاج شبكة من العلاقات التركيبية التي رصفها الكاتب وفق رؤية فنية محددة.
إن تطور آليات التركيب في صناعة الرواية الحديثة بات يمثل المعيار الحقيقي للحكم على ثقافة الرواية حيث صارت هذه الثقافة تتشكل وفق مستويات الاحتراف لإنتاج هذا النوع من الكتابة، فبعد أن تجاوزت الرواية مستوى القراءة المباشر وبحثت في تجددها عبر قنوات التأويل المفتوح انتقلت الألعاب التركيبية إلى ما وراء الكلمات، حيث استفادت من فضاءات الرواية الشاسعة لتحقق إنجازاُ تعجز عن فعله في الأجناس القصيرة من حيث المساحة، فالرواية باتت تؤكد فكرة التعدد من جانب يتجاوز المرجعيات العلمية، لقد باتت الرواية تكتفي بذاتها لإنتاج هذا الفعل عبر اشتغالها على مستويات مزدوجة تبدأ بالتركيب المباشر (عبر الكلمات) وتنتقل إلى المستوى التأويلي، ومن خلاله يتم إنتاج الصورة بدعم تركيبي مختلف.
من هنا لم يعد بإمكاني الحديث عن فكرة كبيرة دون الخوض في تفاصيل صغيرة تتيح أمامي السبيل لتفعيل خيال القارئ والاقتراب أكثر من انفعالاته، لم يعد بإمكاني الدعوة للتمرد على سقوط الجسد قبل أن أتلمس معاناة بطل رواية «قريشي»، وحتى في هذه الرواية لم يتجاوز الكاتب في الحديث المباشر عن القضية بالكلمات أكثر من عدد أحرف عنوان العمل.