«وطن تشارلي» لرولف دي هير.. أستراليا غنيمة كولونيالية
ليس هناك سينمائي عالمي أدرك مهابة الأسترالي الهويّة الهولندي الأصل رولف دي هير ومصافه في مقاربته كينونات سكان القارة الأصليين، ويومياتهم وقهرهم وإقصاءاتهم العرقيّة.
تُعدّ ثلاثيته الشهيرة، التي اختتمها هذا العام بـ«وطن تشارلي»، نموذجاً إبداعياً زاوج بين الأنثروبولوجيا المُنَقّاة وحصافة فنان التزم فضح جور التاريخ الإمبرياليّ وسفّاحيه.
على منوال رواية الأميركي كورماك ماكارثي «خطّ الدم» (1985)، صوّر في المقطع الأول «المتعقِب» (2001) زمرة كولونيالية يقودها عسكري أبيض متزمّت وغليظ، تطارد قاتل امرأة أوروبية، وتستعبد مواطناً من الـ«إبوريجين» لتقفّي آثار المجرم واصطياده. حَوّل دي هير الملاحقة إلى حكم رؤيوي سينمائي لاذع لعنصرية مجرمي الإمبراطورية البريطانية وشراستهم التي أدّت، منذ وصولهم في العام 1788، إلى قسرية لا مثيل لها عمّت البريّة الأسترالية. ثم أتبعه بنصّ نادر ناطق بلغة الـ«يولنغو» المحلية، قارب فيه مفاهيم الغيرة والتنافس والظنّ الشخصي واختراقات القيم، وذلك في»عشرة زوارق كانو» (2006)، عبر حكاية امتحان جماعي معاصرة لإرادة صيّاد شاب أعزب خلال رحلة قنص، صوّرها دي هير بالأبيض والأسود تورية لمرارة المواطن الأصلي اليوم. يسرد شقيقه الأكبر أمثولة قديمة تتعلق بشاب يُشبه الأول، ويستهوي زوجة أخيه البكر قبل أن تُقدم هذه الأخيرة «ديّة» دم، جنّبت الجميع حرباً مهلكة. صورت وقائع هذا المقطع بالألوان، إشارة إلى عنفوان الماضي وتجلّياته الاجتماعية. النتيجة؟ فيلم أخّاذ حول «كومونة» بشرية تتسلّح بالذاكرة، وتتحصّن بقوّة مواعظها.
في المقطع الأخير، كانت «غنيمة الإمبريالي» ـ المتمثّلة بأستراليا المعاصرة ـ بطلة «وطن تشارلي»، حيث الكائن الـ«إبوريجيني» ضحية قوانين زجرية تحظّر عليه ممارسة طرائق حياته المتوارثة. اليوم، هو سجين إكراه مديني يرى في أكواخه وعدّته البدائية وجولات قنصه وسهام حروبه تشويهاً ونجاسات. المحارب العجوز تشارلي كائن هامشي ينتظره السجن إن تطرّف بإدمانه، أو تجاوز قوانين حصاره. علامات خساراته وعزلته؟ شعرٌ أشعث، ولسان ذرب بشتائم مدوّية للشرطة: «أيها البيض يا أولاد الزنى». في المقابل، كَمنت شجاعته في رفضه الاقتناع، كما يريد مستعمره وأنظمته، بأن عالمه الأصلي ومكوّناته زالا، إذ آمن بحزم بأنها متوافرة ضمن حيوات مجموعاته البشرية ومسلكياتها، وليس سوى حريتها كفيلة بتواصلها وضمان تفتحها مرّة أخرى.
وضع دي هير مقاربتين دراميتين لحرب ضروس بين عالمين متضادين: تشارلي الفطري والأمّي. ابن الطبيعة والخاضع لسننها وحيلها وبأسها، في مقابل الشرطي لوك (لوك فورد) المديني، حامي قانون الوافدين ومغواره. بينهما، يتجلّى الكون منظِّماً المصائر، حيث لا عفوية الأول تمنع تقدّمه، ولا عسف الثاني يعرقل دوراته. يخطف العجوز سيارة الثاني، ويتوجّه بها إلى عمق الغابات، مُصمِّماً على إنهاء حياته، كما أسلافه، وسط بيداء بسيطة. بيد أن المطر والبرد يُحيلان مناعته الفقيرة إلى هزيمة. ينقذه صديقه العجوز لولو في لحظة أخيرة، ويُنقل مخفوراً إلى مشفى. لاحقاً، يرى تشارلي خلاّنه يهرمون وينكسرون الواحد إثر الآخر. مرض السكري أوهن جسد ألبرت البدين، بينما نُقل بوبي إلى مدينة «دارون» مُنتظراً نهايته بسرطان الرئة. لن يتبقى أمامه سوى العودة، حليقاً ومهندماً، إلى أهله لتعليم الصغار كيفية الرقص على منوال الأجداد.
لن يخشى دي هير وصف عنصريّي بلاده له بـ«المتعاطف»، وبانحيازه إلى تشارلي وقضيته. فصاحب «الفتى السيئ بوبي» (1993) لم يخترع شيئاً. هي حكاية حقيقية كابدها صديـقه الممثل ديفيد غولبيليل (جائزة أفضل ممثل عن دوره هذا في خانة «نظرة ما» في «مهرجان كانّ السينمائي 2014»)، وأفلمها دي هير بعهدة واقعية، جعلت من سيرة مجتزأة لكائن ينتمي إلى عراقة بشرية عنواناً عريضاً لـ«غنيمة كولونيالية»، أفلحت في سرقة أرض، واستعباد بشر، واختلاس ضمير.
المصدر: السفير