مثقف جزائري وسط صخب التاريخ
رصاصتان. رصاصتان مرّتا عبر نافذة مفتوحة في سيارة في ذاك الصباح من 26 أيار (مايو) 1993. بالدم، كُتبت صفحة جديدة من النضال، من كتاب ذي عناوين كثيرة: مقاومة المواطن، «العائلة التي تتقدم»، شهيد الصحافة الجزائرية.
سقط طاهر جاووت قتيلاً عن 39 عاماً، وظلّ يصارع الموت حتى الثاني من حزيران (يونيو) ليستهل لائحةً طويلةً من الصحافيين والكتّاب والمفكرين والمسرحيين والفنانين الذين سقطوا على أيدي قتلة لا تزال هوية العديد منهم محطّ جدل حتى اليوم. برر بعض الإسلاميين في «جبهة الإنقاذ» اغتياله بأنّه «اختار الانضمام إلى معسكر مناهض لشعبه». فقد عارض علناً الإسلاميين الذين فازوا في الانتخابات التشريعية نهاية عام 1992. لكن أولئك الإسلاميين نسوا عن قصد أنّ جاووت كان معارضاً أيضاً للنظام الذي كان قائماً حينها. واسم الأسبوعية التي أسسها عام 1993 Ruptures تعكس بوضوح موقفه وشجاعته في القطيعة مع الإسلاميين والنظام القائم معاً، وفي القطيعة مع أثقال مجتمع لا يزال يخضع لوصاية نظام قام بعد حرب الاستقلال: علينا أن نقرأ اليوم كتابه «الباحثون عن العظام» الذي يروي فيه حكاية بعثة قرويين في منطقة القبائل بعد حرب الاستقلال يبحثون عن أشلاء شهدائهم ليدفنوهم في مسقط رأسهم.
رؤية ما انفكت تراود جاووت هي البحث عن إجابة لسؤال حول: كيف تكون جزائرياً وسط صخب التاريخ؟ كيف يمكنه هو أن يترك السفينة فيما يُغرقها بحر من الدماء؟ لقد قال في واحدة من مقالاته الأخيرة «ليس عبر الاندماج والمساومة مع الأصولية ولكن عبر نزع القناع عنها ومحاربتها، يمكننا التقرّب بشكل سليم من الشباب الذين تستغلّهم من دون تردد».
وحتى في موته، ساهم جاووت في حرب النور على الظلمات، كلّ الظلمات. تعرّض بعد موته لحملات شرسة اعتباطية. وهنا نتحدث عن الاعتباطية بالفعل، فالتحقيق باغتياله كشف آلية الفلتان من العقاب السائدة في الجزائر. نبدأ بالهجوم الذي شنّه الكاتب الكبير باللغة العربية الراحل طاهر وطار الذي قال إن موت جاووت خسارة «لعائلته الخاصة ولفرنسا فقط». برزت العدائية التاريخية بين المفكّرين الميّالين إلى اللغة العربية وأولئك الميّالين إلى الفرنسية، في صراع ربما بين من يوصفون بالبعثيين الرجعيين وعملاء المستعمر القديم.
هذا الصراع الهامشي لم يفد إلا السلطة التي انتهجت مبدأ فرّق تسد. غير أن بعض المعطيات تتناقض بوضوح مع موقف وطار المؤسف: هنا نتحدث بشكل أساسي عن الصداقة المتينة الشخصية والأدبية التي جمعت بين جاووت والكاتب الكبير باللغة العربية جيلالي خلاص الذي كتب في صحيفة «الوطن»: «يمكن لكلمة صداقة أن تكتسب بعداً جديداً ورونقاً جديداً وفعالية جديدةً عند استخدامها بالشكل المناسب. فعلى شفتيّ رجل يعشق الحقيقة ويدافع عنها، تجد الصداقة معناها الأول وطاهر جاووت كان رجلاً من هذا النوع». ونذكر أيضاً الصحافي والكاتب بالعربية حميد عبد القادر الذي يقول في كتاب جديد يصدر هذا الأسبوع عن «دار البرزخ»: «في الواقع، موقف جاووت لم يكن مناهضاً للمستعربين وللغة العربية، والإثبات على ذلك أنّه كان عضواً في هيئة تحرير مجلة «الرواية» التي شرع صديقه جيلالي خلاص في إصدارها سنة 1989 وقد نشر فيها جاووت قراءة حول إحدى روايات رابح بلعمري، وكتب النص القصير مباشرة باللغة العربية. وبإمكان جيلالي خلاص أن يشهد بأن جاووت كان قد بدأ في تعلم الكتابة بالعربية، كما أن قربه من الوسط المعرّب لا يمكن نكرانه. لم يكن مقرّباً من جيلالي خلاص فحسب، بل أيضاً من أحميدة العياشي، وآخرين». ويضيف عبد القادر مدير تحرير الصفحة الثقافية في صحيفة «الخبر» الناطقة بالعربية متفاجئاً «رغم ذلك، قرّر وطار إعلان الحرب عليه».
نقول ذلك للمطالبة بالعدالة والخروج من البدعة التي ينتهجها النظام وأعوانه الذين لا يزالون حتى اليوم في عام 2013 يفرضون الرقابة للحدّ من كلّ المبادرات الرامية لتخليد ذكرى طاهر جاووت.
تلك كانت الهجمات الاعتباطية، والآن لنتكلّم عن الاعتباطية بحدّ ذاتها، ونقصد بذلك التحقيق في هوية القاتل. لم يجر حتى الآن أي تحقيق جاد للكشف عن هوية المنفذين والمحرضين. فقد أظهروا على التلفزيون رجلاً يعترف بالجريمة، ولكنه سرعان ما تراجع عن قوله أمام القضاء قائلاً إنه أقرّ بالذنب تحت التعذيب. يا لها من فضيحة!
شكّل عدد من الصحافيين والمفكرين الذين اغتيل بعضهم في وقت لاحق لجنة «الحقيقة من أجل طاهر جاووت» أصدرت بياناً في 7 حزيران (يونيو) 1993 تدعو فيه الرأي العام إلى دعمها في مسعاها، لأنّ «الكثير من الجرائم السياسية تظلّ من دون عقاب في بلادنا». ومن بين أعضاء اللجنة البروفيسور في علم النفس محفوظ بوسبسي الذي اغتيل في 15 حزيران (يونيو) 1993، أمّا منسقها فكان الصحافي سعيد مقبل الذي اغتيل في 3 كانون الأول (ديسمبر) 1993. إنها لمذبحة!
بعد 20 سنة على وفاته، لا يزال جاووت ينهك المفكرين والإسلاميين ورجال السلطة الذين ما عادوا يرغبون في تذكر تلك الحقبة التي تعود لتفرض نفسها عبر موجة الأسلمة التي تجتاح العالم العربي. هم لا يريدون إثارة الشكوك حول سياسات العفو المثيرة للجدل التي تبناها الرئيس بوتفليقة. حتى يومنا هذا، وبعد مرور عقدين على اغتياله، لا يزال قتلة جاووت مجهولين.
بقلم عدلان مدي
الأخبار اللبنانية