ويلٌ للعالم لو تكلَّم المَسخ...
النديم بو ترابة النديم بو ترابة

ويلٌ للعالم لو تكلَّم المَسخ...

 يحب المنام أوقاتاً أن يكون معبراً ضوئياً بين كونين، لتكمل حكاية ما مصيرها، فكل واقعة هي حكايتان: تمثل الأولى الحدث في الواقع  وتفاصيله،  واستمرار الزمن والحياة السطحية الظاهرية بعدها.

أما الثانية، الأعمق من الأولى، فتدخل  كأطياف أثيرية يحفظ شيفراتها (مصفوفتها) اللاشعور، وتمثل طاقة الحدث، كيميائه، وغايته وحقيقته واشتغال الباطن ( يطاردها التحليل النفسي )، وبحركتها الدائمة قد تدخل الحلم والمنام،  لتهرب من كبت الشعور على العقل الباطني، فعندما يتظاهر سوري بعدم اكتراثه العميق لمشهد موت مسجل، وذلك لكثرة المشاهد وتكرارها، تكون قلة الاكتراث وأسبابها، واستمرار اليوم بعدها، الحكاية السطحية من الحدث أما بقية الحكاية الثانية التي تلقّف الباطن طيفها الرقمي  وخبّأها لفداحتها، فتكمن في الرعب من ما سنكون  عليه نحن أو أحد أحبتنا، ربما مشروع موت عبثي. لكن الأفدح من تلك الحكايات مخالبها أو إشعاعاتها وأثرها النفسي المعروف للجميع، ما ستجذّره الأزمة فينا، والذي قد يتصلب ويتحول إلى أثر دائم، وهذا ما أيقظني منامي إليه ...

في المنام، تحدّق نحوي نظرات،  تُظهر من صاحبها حيرة صياد نجح صيده في البقاء حياً متألماً نازفاً أمامه ، كانت ترمقني أشباح طويلة بيضاء، بدت هيئتي أمامها صغيرة الحجم، لا أستطيع الانتصاب، وكنت غارقاً في العتمة، وجهي خجول من ذلّي، وصوتي مخنوق، حاولت التكلم والاستحلاف، فلم يعجبهم صوتي ... جاهدت لإثبات إنسانيتي،  ربما أمسيت مشوَّهاً لكنني مازلت أعقل وضعي، طال وقوفهم أمامي دون قرار بشأني ، بينما أصبح خوفي أكثر عدوانيّة وغريزيّة، تذكرت حينها أنني أشبه شيئا آخر، مألوفا لدي، وهنا أيقنت أنني يجب أن أقلِّدَ ما فعله الذي أشبهه ... تراجعت إلى الوراء من قسوة ما شعرته من دونية أمام هيبة الأشباح، وجدت أريكة واطئة فتجمّعت كحيوان مذعور تحتها أراقب مصيري وجلالتهم ...

في الصباح _صباح المدافع والتأويلات_ تذكرت المسخ في كابوسي ،كان مسخَ كافكا، و بطل قصته الشهيرة الذي استيقظ في أحد الصباحات ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة كبيرة، ظهور مسخ كافكا الذي من طبعه ألا يوجد مصادفة في الأحلام والهواجس يربك تأويل المنام، فهل بدأ شبح كافكا بنداء السوريين ...؟

أتساءل عندما أتذكر مسخ كافكا، لماذا اختار كافكا المتحوَّل حشرة؟ لماذا استقرت في الذهنية البشرية حتى مطلع القرن العشرين صورة المسخ على شكل متحوِّل، بينما المسخ الحقيقي كان افريقيا كلها، والهند وباقي شعوب العالم الثالث، فكافكا الذي اختار مسخه بعناية تهم تأويله،  زوّر كثيراً من المسوخ الحقيقية المسكينة، فالمسخ خارج النص والقصص والروايات كان واحدا من زنوج جزيرة: (جزيرة فيكتوريا أيلاند في نيجيريا والتي يوجد فيها جبل كان لبيع العبيد و سوق نخاسة يُنْقَلُ منه الأفارقة إلى أوربا للذل ثم القتل، إلى الآن يمقت النيجريون تلك الهضبة الشاهدة ...)، ومن المسوخ اليهودي الذي مسخ بشريته عندما أجبرته تعاليم التلمود والحاخامات والنبذ الغربي على أن يغرق في قذارة الجيتو (أشهر الأشكال الانعزالية اليهودية، يطلق على أشكال الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. و الجيتو عبارة عن حي أو عدد من الشوارع المخصصة لإقامة اليهود)(1) ، لقد كان شايلوك شكسبير الجيتوي هو المسخ الأنضج من مسخ كافكا، فالمسخ ليس التحول فقط بل هو الشعور بالتحول، و الإحساس بمن يريد أن يراك مسخا، وهناك الكثيرون الذين كانوا في نظر الجماعة مسوخاً لأنهم رفضوا جور الجماعة كالصعاليك العرب.

واليوم يستعذب، كثير من السوريين الرطبين واللزجين بعد لعق البازارات  لأجسادهم وأرواحهم، نداء مسخ كافكا، صحيح أن السوريين ليسوا كافكاويين، لكن عندما تصر كثير من الجهات على جعلك طريدة بائسة لا تجيد الهرب، ويعشق الآخرون موتك الشيِّق على اليوتيوب، وترافقك الدهشة، وهذه أخطر الإحساسات لأنها بداية التحوِّل، لأنها دهشة المسخ والتي سوف يتبعها ثلاثة يقينيات، الأول أنك لم تكن مسخاً ولاتدري لماذا أصبحت مسخاً بين عائلتك، والثاني قناعتك بتحوِّلك وبشكلك الجديد، بعد أن ترى نفسك مشوها عن الآخرين، والثالث شعور دفين يخبرك بأنك مازلت كائناً حياً نصفك إنسان، لذا فأنت لا تستحق تلك المعاملة الوحشية.                                                                                                            رفض النفق السردي في منامي مسخ كافكا، انطلاقا من أزمتي التي لا تفتأ تضايقها إنسانيتنا، فمسخ كافكا كان ذاتياً منكسراً، منسحباً، ظهر في زمن الذاتيات المتضخمة بأمراضها وحساسيَّتها، لذلك كانت ضعفاً وإخلافاً للعالم وأبطاله الحقيقيين، والأكيد أن كافكا كتب عن الإنسانية المهمّشة  «كافكا هو الممثل الأبرز لروح العصر الحديث بكل ما يتسم به من قلق و تشظ وصراع ... لفرض الهيمنة والتسلط والقمع بوجهيه التوتاليتاري والبطريركي»(2)، لكن ذاته لم تجرؤ على الثورة والرفض خارج النصي حتى تتلمس مسوخ الغرب الحقيقيين _الذين كان لنا منهم إلى الآن نصيب_ وهنا كان لابد للماركسيّة واليسار أن يزحف ويكنِّس العوالم الوهمية نحو رؤية وثيقة للعالم خارج الذات الواهمة (الكتابة الخارج ذاتية)، أما اليوم فلم تعد الكتابة عن الذات تجدي أمام  الكثير من الشعوب التي أيقنت أنها مسوخ لكنها لم تجد الشكل الأمسخ للخروج به ذات صباح. عذراً كافكا...

• مراجع:

(1)- الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية _ د. رشاد عبد الله الشامي _ عالم المعرفة يونيو 1986م

(2)- عبد الوهاب أبو زيد – من كتاب كافكا في النقد العربي (البداية) عدد من النقاد والكتاب – الناشر ابراهيم وطفي – توزيع دار الحصاد 2005.