في حضرة المقام العراقي
السؤال الذي يجد مئات الأجوبة والذي يقدم فيه منظرو الفن والموسيقا العربية هو: لماذا يسكن الحزن كل تفاصيل الموسيقا والغناء العراقي؟؟ فمن واحد يعيد ذلك إلى كربلاء، إلى من يرجعه إلى المآسي التي تركها المغول.. وثالث يقدم تبريراً أكثر حداثة في أن مرجع النبرة الحزينة يعود إلى ما تعرض له العراق في مطلع القرن العشرين وصولاً إلى حرب الخليج..
وإذا وقفنا على حياد المرجعيات تلك ونظرنا نظرة في عيون الفنانين العراقيين الذين حضروا أمسية سيدة المقام العراقي فريدة محمد علي في دار الأوبرا منذ أيام، لبحثنا عن ابتسامة مفقودة على وجوههم أجمعين، رغم أن قيثارة دجلة جمعتهم في دار أوبرا دمشق ليستمعوا إلى المقام الذي خرجوا منه وأطلقت شهرتهم في الوطن العربي أجمع... إلا أن المنفى أمعن في زرع المأساة التي وجدت مكاناً مهيئاً لها في الغناء والموسيقا الرافدية، وهذا ما أكدته سيدة المقام العراقي في المقامات التي قدمتها، والتي حاولت بين الجملة والأخرى فيها أن تذكر العراق وبغداد وتفاصيل الوطن، فكل محبوب في لازمة أغنية ما سوف يصبح العراق في جملة تليه، وكل مكان متكرر في مقام ما سيكون بغداد.. إنه مجرد استذكار وألم يبدو واضحاً على وجه المطربة الكبيرة وحضورها من الفنانين العراقيين أمثال سعدون جابر وكوكب حمزة وسواهما.
صوت محمد علي الجبار أرجع في ساعتين عدة مقامات عراقية من تراث ناظم الغزالي وزهور حسين ولميعة توفيق وعفيفة اسكندر ووحيدة خليل.. مع موسيقا «فرقة المقام العراقي» التي أعد جملها ووزعها الملحن محمد حسين كمر، لتكون بالفعل أمسية عراقية من الطراز الرفيع لم يعتد الجمهور السوري على حضورها إلا من خلال تسجيلات قديمة لناظم الغزالي في حفلة حماة، أو من خلال الجلسات العراقية التي تعرضها فضائيات ما بعد الاحتلال والتي أحياها مطربون أصبحوا الآن في المنفى، أو ذمة الخالق أمثال حميد منصور وسعد الحلي وسعد البياتي وياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد وسحر طه وسواهم.. إلا أن فريدة استذكرتهم جميعاً من خلال المقام الذي جمع مئات الأسماء من الفنانين في محراب عراقي فني واحد.
عندما حيّت سيدة المقام العراقي أو «سيدة الرافدين» أو «قيثارة دجلة»، كما تسمّى، الفنانين العراقيين الحاضرين والجالية العراقية في دمشق، بدا قداس المقام العراقي جنائزياً رغم أن التصفيق تعالى في القاعة من نبرة صوتها، ونبرة صوت قائد الفرقة، واستكملت الوتريات والإيقاعيات والقانون ذو الخصوصية الرافدين هذا القداس على وقع صوت هز دار الأوبرا، رغم بعده نسبياً عن المايكروفون، فكأن عراق الشتات كله يحضر سيدة مقامه رغم الكراسي الفارغة الكثيرة الموزعة هنا وهناك، على اعتبار أن الجمهور السوري غير مطلع كفاية على هذا الفن، أو أن الفن العراقي ذو خصوصية لا تجذب إلا نماذج معينة تتذوق الطرب العراقي، وتتقن حرفته في استحضار الألم من خلال الموسيقا والغناء.