العولمة: ترحب بك في بلدك!

العولمة: ترحب بك في بلدك!

ماذا كان سيحصل لو أن الملكة (مارغريتا تيريزا جيوفنا) لم تترك قصرها كي تتجول في شوارع نابولي عام 1889 في محاولة لرفع الروح المعنوية لشعبها حينما كانت الكوليرا تفتك بإيطاليا، ربما لم تكن ستتذوق البيتزا في أحد مطاعم الفقراء، تحبها، وتجعل منها طبقاً ملكياً مشهوراً، لتغدو وجبةً عالمية، تتربع على عرشها مطاعم  (البيتزا هات). ولم يكن الفقراء اليوم سيقفون أمام واجهات المطاعم جائعين يتأملون الطعام الذي خلقته حاجاتهم وسعة خيالهم دون أن يكون في مقدورهم دفع تكلفته!

تختصر (دورة حياة) البيتزا تلك المراحل التي تمر فيها معظم السلع الاستهلاكية والثقافية التي تعمل الأنظمة الرأسمالية على عولمتها وبيعها في أصقاع الأرض كافة.  إذ ساد لزمنٍ طويل بين الشباب فهمٌ مبسط للعولمة باعتبارها  تقتصر على محاولات لـ» أمركة « و»غربنة« العالم عن طريق إحلال الثقافة ونمط الحياة الأمريكية والغربية محل الثقافات الأخرى.  إلا أن ذلك وحده  لم يكن كفيلاً بإنجاحها لولا قيامها في سبيل ذلك بعملية معقدة تتمثل أولاً في امتصاص الثقافات والحضارات المختلفة، ثم هضمها، وإعادة إنتاج تلك الثقافات بحلة جديدة، ثم بيعها للمواطنين الذين كانوا في يوم من الأيام أصحابها الحقيقيين.
إذا ما تجوّل المرء في الأحياء الشعبية في القاهرة، وأراد شراء أهرامات معدنية صغيرة، أو لوحات جدارية تصوّر الفراعنة والآلهة المصرية القديمة، سيجدها جميعاً موسمة بعبارة «صنع في الصين»!. تبحث شركات الإنتاج الفنيّة كل يوم عن مغنيّن لاتينيّن أفارقة، أو موسيقيين هنديين أو جمايكيين..الخ، تقدم لهم (فرصة العمر) في الظهور على خشبات المسارح العالمية أو برامج اكتشاف المواهب. فيما تسعى الأندية الرياضة العالمية للبحث عن اللاعبين المغموريين في الأحياء الفقيرة، أو المنتخبات الوطنية متواضعة الإمكانات، لتحولهم إلى لاعبين عالميين، يحملون جنسية أنديتهم بدلاً من أوطانهم.
قد يقول قائل ما المشكلة في ذلك كله؟ إن كان النظام العالمي يسعى للتزاوج والتمازج بين الحضارات، وجعلها متاحة للجميع؟! ويذهب آخرون أبعد من ذلك ليلغوا الفروق بين النظام الاشتراكي والرأسمالي على اعتبار أن الاثنين يعلنان الأهداف نفسها ويسعيان لوحدة الأمم والشعوب والثقافات.
 يغفل أصحاب هذا الاتجاه أن منظومة العولمة، بما تتضمنها من شركات عابرة للقارات والقوميات والحضارات تضع الربح هدفها الأول والأوحد، تحمل إلى هذا العالم جنيناً مشوهاً هجيناً، مطعماً بلحنٍ لاتيني وبهاراتٍ هندية، دون أن يمتلك غنى وأصالة الحضارات التي جاء منها، أو دون أن يرتقي بالإرث الثقافي البشري، بعد مزجه، نحو  ثقافة أكثر غنى وابتكاراً. ليبقى هذا المنتج غربي الهوى والفكر.
يشاهد السوريون اليوم صور آلامهم وحروبهم نقلاً عن (رويترز) و(فرانس برس)، تكحل بعض الفتيات أو الفنانات عيونهن بالكحل العربي ويرتدين أساور فضيّة ممهورة باسم وكالات الأزياء العالمية، كما لو أنهن» مستشرقات «يحاكين ثقافاتهن الأم بعيونٍ غربية!  ويشتري الفلسطينيون تراثهم من المطرزات والمنسوجات الصوفية بسعر الدولار أو ما يعادله من العملات العربية، لتبدو تلك المنتجات كما لو أنها ولدت هكذا،  على حيطان وطاولات المعارض والبازارات والجمعيات التي تدعم القضية الفلسطينية (ثقافياً) فقط، ولم تكن يوماً صنع يد الجدات والأمهات الفلسطينيات جيلاً بعد جيل. تعمل العولمة في العمق على تحويل المواطن إلى سائح في بلاده، تغيّب تراثه عنه، وتحرمه من امتلاكه، أو الشعور بكونه يجسد امتداداً بيولوجياً ووطنياً وحضارياً  للأرض التي ولد وعاش فيها.

آخر تعديل على الأحد, 06 نيسان/أبريل 2014 14:06