(فوق الموتة.. عصة قبر!)
وأخيراً ظفر «أبو وليد» بشقةً للسكن بالإيجار بعد طول تشرّدٍ وتنقّلٍ من أحد مراكز الإيواء، إلى بيتٍ لأحد الأقارب، إلى بيتٍ لصديق.. بعد أن دُمِّرَ بيته الذي كان يقطنه مع أفراد أسرته في أحد الأحياء، إثر اشتباك مسلّح ما بين القوات الحكومية ومجموعات مسلحة.
ولكن كما يقال: «الحلو ما يكملش» فقد صادف أن تكون شقته مطلّة على بقعة أرض مليئة بالأشجار البرّية القزمة والأشواك والحشائش، يتخلّلها بعض أكوام التراحيل من الأبنية السكنية قيد التجهيز. وهذه البقعة من الأرض تُعدّ استراحة لسائقي سيارات الأجرة «المزنوقين»
فقد اعتادوا أن يقضوا حاجاتهم فيها. ونادراً ما ظهر أبو وليد أو أحد أفراد أسرته على البلكون، إلا ووقع بصره على سائق وقد أوقف سيارته إلى جانب الطريق، وهرول مسرعاً ليتوغّل بين شجيرات هذه الغابة الصغيرة لدقائق ثم يعود إلى سيارته وقد «أراح ضميره». حتى أصبحت الرائحة المنبعثة من هذه المنطقة لا تطاق.
في إحدى الأمسيات قال لزوجته: والله يا أم وليد هذه ليست حالة.. ويجب أن نفكّر بطريقة تخلّصنا من هذه المصيبة.
أجابته بانكسار: احمدْ ربّك يا رجل.. وضعنا على علاته أفضل بكثير من مخيمات اللجوء. دعنا نستخدم البلكون فقط لنشر الغسيل..
هزّ رأسه رافضاً وأومأ بيده بأن هذه الحالة يجب ألاّ تستمر. ونهض مدمدماً: «آه لو أستيقظ على أنغام مارش عسكري يعقبه إذاعة بيان يحظّر على السائقين التبوّل في الأماكن العامة تحت طائلة الشنق..» واتجه إلى المطبخ وأحضر كرتونة مستطيلة انتزعها من علبة المساعدات الإنسانية «الإغاثة» التي استلمها بعد طول انتظار، وكتب عليها عبارة «رجاءً ممنوع التبوّل هنا» وعلّقها على عصا خشبية ونزل إلى تلك البقعة وزرعها عند المدخل الذي يسلكه السائقون.
صبيحة اليوم التالي هرع بحماس إلى البلكون ليتفقّد رايته، وجدها مقلوبة على الأرض. نزل إليها لمعرفة السبب، وجدها مدعوسة وآثار دوس الأقدام عليها.
سارع إلى شقته وهو يبربر لاعناً الذبّيحة والشبّيحة الذين أوصلوه إلى هذا المصير. وانتزع قطعة أخرى من علبة الكرتون وكتب عليها «ملعون ابن ملعون من يتبوّل هنا» وعلّقها على ذات العصا ونزل إلى نفس المكان وزرعها مجدداً. ولكن هذه المرة ثبّتها جيداً في الأرض وعاد إلى بيته متفائلاً بأن جهده لن يضيع سدىً.
بعد أقلّ من ساعة ظهر على البلكون، وجد سائقاً وقد أوقف سيارته ونزل مسرعاً يفكّ سحّاب بنطاله، توقّف قليلاً وهو يقرأ العبارة وركلها بقدمه وتابع طريقه ليقضي حاجته.
جنّ جنون أبو وليد. ونزل ينتظر السائق عند مدخل الأرض إلى أن عاد. بادره معاتباً بلطف: «لو سمحت يا أخ! هذا المكان ليس مرحاضاً.. صدّقني الروائح تمنعنا عن النوم. حبّذا لو تجد مكاناً آخر، ثم إن هذا الفعل ليس حضارياً.. انظر، وأشار إلى شقته، نحن نسكن هنا، ومن غير المعقول أن نتصبّح ونتمسّى بهذا المنظر..»،
أشاح بوجهه السائق وتابع سيره وهو يغمغم: «اذهب عنا ياه.. وهل يتوقّف الأمر عليّ وحدي؟ أغلب السائقين يقضون حاجاتهم هنا.»
ركب سيارته وغادر المكان بعد أن رفع صوت مسجلة السيارة على أغنية لصباح فخري «قدّك الميّاس يا عمري».
صعد أبو وليد إلى بيته وهو يشتعل غضباً، وتمنّى لو أن جميع سائقي سيارات الأجرة من الإناث. نزع قطعة كرتون جديدة وكتب عليها «كلب ابن كلب من يتبوّل هنا»..
لكنه لم يستفد شيئاً.
نزع القطعة ما قبل الأخيرة من علبة الكرتون وكتب عليها «المكان مكهرب.. لسنا مسؤولين عن فقدان غريزتك الجنسية».
وأيضاً كأنك يا بو زيد ما غزيت!
فكّر مليّاً بعبارة تثير الرعب أكثر في نفوس السائقين، فكتب على القطعة الأخيرة من علبة الكرتون «انتبه: المكان مزوّد بكاميرا.. نتمنى ألاّ تكون المعتقل الثاني لدينا!».
في اليوم التالي كان أبو وليد نزيل منفردة يتبوّل ويتغوّط في تنكة. ورغب من أعماقه أن يريح ضميره في تلك البقعة التي يرتادها السائقون.