(أكيتو) .. وعشتار المغيّبة!
يصادف الأول من نيسان ذكرى رأس السنة السريانية – الآشورية ،عيد "أكيتو" ،أو كما يلفظ باللغة الآشورية "خا بنيسان" يمثل بداية للخير وقدوم فصل الربيع، ويعتمد على أسطورة قديمة مفادها "زواج عشتار إلهة الحب مع تموز إله الخصب"
تحوي الأسطورة المكتوبة على الالواح الكثير من التفاصيل الجميلة عن نزول عشتار إلى العالم السفلي وحجزها هناك وعدم اكتراث زوجها تموز بذلك، وبعد عودة عشتار تعرض على مجلس الآلهة لمعاقبة تموز حيث يقرر المجلس منح الخلود النصفي له، أي يبعث إلى الحياة لمدة ستة أشهر فقط من السنة، وهكذا يبعث تموز إلى الحياة في اليوم الأول من نيسان ثم يعود إلى العالم السفلي أي عالم الأموات مع نهاية شهر أيلول، للقصة قيم ودلالات إنسانية وفلسفية، رافقت مسيرته الحضارية، وتؤكد عمق ارتباط الإنسان بالطبيعة والأرض ودورة الحياة المستمرة بلا انقطاع، وتشير إلى قدرة الإنسان على التجدد والانبعاث، كما أنها من أقدم قصص الحب والجمال، منذ أكثر من ستة آلاف سنة!
بالعودة إلى الحاضر، تنشر العديد من الصفحات الفيسبوكية مجموعات من الصور القديمة التي تعنى بالتراث السوري على وجه الخصوص، عادت معظمها إلى القرون الأولى التي احتضنت أقدم الحضارات المعروفة في العالم، ثم انطلقت ذات الصفحات لتتحدث عن تاريخ منسي ومهمل ترك لنا الكثير، تاريخ عريق مر على أرض تتصارع عليها الأمم اليوم.
لم يكن مستوى الاهتمام بمثل هذه الحقائق كبيراً في السنين الماضية، عادت جوليا دومنا وزنوبيا إلى الواجهة و أصبح "فيليب العربي" رمزاً سورياً أصيلاً في مواجهة أبطال غرباء ملئوا كتب التاريخ المدرسية بمآثرهم، اكتشف الكثيرون بأن تاريخنا المدرسي والأكاديمي لم يكن سورياً خالصاً، وامتعض البعض من مدى التهميش الذي لحق بتاريخ الأمم السورية الأولى التي حملت إلى العالم أكثر بكثير من "الأبجدية" التي يتوقف عندها الحديث عادة. أثار الأدب والشعر والموسيقا والنحت والرسم والفلسفة في عقول الجيل الأحدث من السوريين الكثير من الاهتمام والمتابعة كما لم يفعل قط كتاب تاريخ جامد في مراحل الدراسة الأولى، إنهم يلتهمون ما أمكن من أشعار عشتار، يعيدون نشرها واقتباسها، تتكاثر التعليقات تحت صورة إحدى المنحوتات النادرة لسوار فضي فينيقي ساحر في دقة التفاصيل وجمال التصميم، يصيح بعضهم: "من خبأ كل هذا الجمال؟".
تعود الذكريات بالبعض إلى مقاعد الدراسة، إلى الكتب المدرسية التي روت قصص التاريخ، فردت صفحات كثر للحديث عن قبائل الجزيرة العربية ونزاعاتها، وخصصت فقرات متواضعة لتاريخ مدهش بغناه، اكتفت الدروس بتعداد الملوك وسكان القصور والبلاطات، أخذ قادة المعارك والغزوات النصيب الأكبر من الاهتمام، اختفت آثار العديد من الفلاسفة والمفكرين المجددين وتلاشت مآثر أعمدة الفكر الفينيقي والبابلي والآشوري والكلداني والسرياني وضغطت في فصل مدرسي واحد يحتل مكاناً متواضعاً في كتب إحدى المراحل المتوسطة.
«مرقدة».. هناك حيث يرقدون
تمتلك سورية منهاجاً موحداً للتاريخ، وهذا جيد بالمقارنة مع دول أخرى ما زالت تتصارح مكوناتها للاتفاق على رواية موحدة لتاريخها، لكن، تحتاج تلك المناهج إلى مراجعة جدية ترفع الظلم عن حقب نيرة دفنت تحت التراب واعتلاها الغبار بعد أن أشرقت شمساً على العالم أجمع في زمان مضى، ولمن لا يعلم، تقبع مئات الآلاف من القطع الأثرية في متاحفنا الوطنية دون أي تصنيف أو مراجعة منذ أكثر من ثلاثة عقود، كما أنني أذكر بوضوح وصف "الحركة الوهابية" بالحركة "الإصلاحية" في كتبي المدرسية بينما تتعرض هذه الحركة اليوم بالذات إلى حملات فاضحة لأصلها ومنهجها، هناك شيء مريب هنا، هناك الكثير من التجاهل، وهو ليس عفوياً في الكثير من الأحيان.
توضحت الصورة اليوم، هي حرب على التاريخ السوري قادتها في السابق جهات تحارب اليوم الحاضر السوري وتنوي قتل المستقبل السوري، نستطيع عندها تفسير الكثير مما نراه في هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا، سرقة ممنهجة للآثار من مخطوطات وتحف وقطع نادرة، زوابع إعلامية تثيرها تفجيرات الأضرحة والمزارات، مجازر جماعية خصصت لمن تبقى من رواة التاريخ الدموي للبعض، كما حدث مؤخراً في كسب، كيف لنا أن نتجاهل القرار الأول الذي اتخذته المجموعات المتطرفة التي احتلت مدينة "مركدة" في الجزيرة السورية، لقد عمدوا إلى تغيير اسمها إلى "ميسرة"، لأن كلمة "مركدة" تعود إلى معنى "الرقود" وتحتفظ بأضرحة العديد من ضحايا المجازر الأرمنية أيام الاحتلال العثماني "يرقدون" هناك، ملايين من الدولارات دفعت لإخلاء الجزيرة السورية الغنية بتنوعها المذهبي من سكانها، قدمت جميع التسهيلات لسكان تلك "الأقليات" للسفر إلى بعض البلدان الأوروبية هرباً من نيران الأحداث الأخيرة.
الرياح الصفراء..
التاريخ السوري حاضر بأوجهه كافة في هذه الأيام، وبقوة، يتلاعب به المتطرفون وأيضاً المتآمرين الذين طالما سعوا إلى تهميش الثقافات المحلية وهدم أركان التراث لتقييد الذاكرة الجمعية وتسهيل عملية الغزو الفكري على خطا المستعمرين الأوائل، يساندهم في ذلك البعض من الداخل، ممن ساوموا على التاريخ السوري في المناهج المدرسية وفتحوا الباب لرياح صفراء غريبة تماماً عن الخصوصية السورية تحت ذرائع متعددة، والتي عمل ضيق أفقها على طمس تاريخ عريق من الأدب والفلسفة و المثيولوجيا كنوع معاصر من "هدم الأوثان" و"إعلاء راية الالتزام الديني"، وهنا تحضرني كلمات قالها أستاذي في مادة التاريخ في الصف الثامن: "على المرء أن يتساءل عن جنسية هذه المناهج!"، علمت بعدها بأن هذا الأمر كان يذكر بهمس بين بعض الأكاديميين، لقد خضعت كتب التاريخ - كما مناهج التربية الدينية بالمناسبة- لموافقة غير معلنة و"غير سورية" في وقت من الأوقات لإسكات البعض!!
على كل حال لا أدري ما نصيب أستاذي التاريخ من هذه الأيام السوداء لكنه حاضر دوماً بقصصه الشيقة عن ملاحم أبطال وحكايات جميلة من الماضي البعيد، كقصة عشتار وتموز هذه، أود أن يتمتع بها الجميع، وأن نحتفي بها جميعاً في عيد رأس السنة السورية، بدلا من أن نحتفي بعيد .. الكذب.. مثلاً..