موريتانيا.. الرئيس يهجو الشعراء
معن البياري معن البياري

موريتانيا.. الرئيس يهجو الشعراء

عثر رئيسُ موريتانيا، الجنرال محمد ولد عبد العزيز، على واحدٍ من أَسباب «تخلف» بلاده، و «مأساتها»، بتعبيريْه، وهو أَنها «بلد المليون شاعر»، في معرضِ جوابِه على سؤال مجلةٍ فرنسيةٍ له، قبل أَسابيع، بشأْن الوضعِ المتأَزّم الراهن في موريتانيا، بسبب البطالةِ والاحتجاجاتِ منذ شهورٍ فيها، حيث رأى أَنَّ موريتانيا ينقصُها المهندسون وأَصحابُ التخصصاتِ الفنيةِ والحرفية، فيما آلافُ الشبابِ متخصصون في القانون والآداب والشعر.

ولم يكن لتصريحٍ مثل هذا، وبهذه السخريةِ الحادّة فيه، أَنْ يمرَّ على الموريتانيين ونخبِهم بأَريحية، فقد واجه ولد عبد العزيز غضباً واسعاً مما قال، اضطرَّه إِلى محاولةِ استرضاءِ المثقفين والشعراء، وجهرَ بأَنَّ حزناً أَصابه من تأويل تصريحاتِه على غير مقصدِها، حين «أُخرجت من سياقِها». وبادر إِلى استقبال أَعضاءَ في اتحاد الأُدباء والكتاب الموريتانيين، وأَبلغهم، بحسبِ «العربية نت»، أَنه إِنما أَراد التأشير إِلى مشكلةِ طغيان التخصصات الأَدبية بين حملة الشهادات، ما يحدُّ من فرصِ التشغيل ويرفعُ نسبَ البطالةِ إِلى مستوياتٍ قياسية.

نتضامنُ مع شعراءِ موريتانيا، ونصطفُّ معهم، في محاولةِ رئيسِ بلدِهم تحميلَهم المسؤولية عن بؤس التخطيط الحكومي العام الذي يفشلُ في توفير الكفاءاتِ المحلية في الصناعةِ والعمرانِ والتقنيةِ والطب والمهن الحرفية وغيرِها. وثمّة كل الحقِّ مع من تصدّوا لسخريةِ ولد عبد العزيز، ومنهم الناقد محمود ولد الخرشي الذي كتبَ أَنه كان على الأَخير أَن يمحضَ شعراءَ موريتانيا التقدير الذي يستحقونه، لا أَنْ يعمدَ إِلى «تحميلِهم وزر تواضعِ المؤسسات التعليمية، وتعريبِ التعليم، وتوجّهِ غالبية الطلبة للتخصص الأَدبي». وأَصاب الخرشي في أَنه «كان ممكناً للرئيس أَنْ يُنبِّه إِلى ضرورة الاعتناءِ بالتخصصات العلميةِ التي يحتاجُها سوق العمل، دون التقليل من ولع الموريتانيين بالشعر والأَدب ». والبادي أَنَّ غضباً مكيناً أَصاب ولد عبد العزيز من حملةٍ نشطت ضدّه، بسبب قولتِه تلك، في الصحافةِ ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد استبعد من استقبالِه وفد اتحاد الأُدباء والكتاب مثقفين هاجموه، ومنهم مسؤول الإعلام في مكتب الاتحاد، المختار السالم ولد أَحمد سالم، والذي سخرَ بحدّةٍ من الرئيس وكلامه. وقد أُفيد بأَنَّ ولد عبد العزيز تعهَّدَ في اللقاء بدعم الاتحاد، وتأْجير مقرٍّ دائمٍ له، وتخصيصِ دعمٍ ماليٍّ مستمرٍ لأنشطته، ما دلَّ على أَنه أَدرك خطراً على ما تبقّى له من شعبيةٍ بين الموريتانيين الذين يُقدّرون الشعر بشغفٍ كبير، سيّما وأَنَّ حراكاً احتجاجياً عليه ينشطُ في مظاهراتٍ تطالبُ برحيله و «إِسقاط النظام».

بعيداً من «المسأَلة الموريتانية » هذه، وقريباً منها أَيضاً، ليكن السؤال مشروعاً عما إِذا كان شعبٌ تعوزه الكفاءاتُ العلميةُ في الزراعة والصناعة والإنتاج والتقنية يحتاجُ إِلى شعرٍ غزيرٍ في فضائه العام. يبدو السؤالُ على هذا النحو مفتعلاً بعض الشيء، فالشعرُ لا يتوافَّر بقرارٍ ولا يغيبُ بآخر، حتى نشيرَ إِلى حاجةِ شعبٍ إِليه أَو عدم حاجته. ونحسبُ أَنَّ الشعر في موريتانيا، كما في غيرِ بلدٍ عربي، منتوجٌ جمالي، يُعبر صُنّاعه فيه عن أَشواقٍ وتطلعاتٍ ومشاعرَ فرديةٍ وهمومٍ ومشاغلَ جماعية، ولأَنه عريضٌ وكثيرٌ، فإِنَّ فحصاً يُدقّقُ فيه سيؤكد بالضرورةِ أَنَّ الشعر الجميل منه ليس بالوفرةِ التي قد نظنّ أو نتوقع، غير أَنَّ حصر التعامل مع المسألةِ على هذا الصعيد من دون غيره سيكون فعلاً نخبوياً وفوقياً. الأَوجبُ هو الاحتفاءُ بالحالة، من دون انسراقٍ إِلى المديح الفائض لها، والتسليمِ بها مبعثَ زهوٍ ننقطعُ له، ونرتجلُ بشأنهِ إِنشائيات تتورَّمُ فيها ذواتُنا، فنصبح أُمة الشعر، فيما الأُمم الأُخرى بلا شعر، ونستغرقُ في الحديث إِياه عن الأَصالة والتقاليد وروح الشعر فينا، برطانةٍ لا تزيَّدَ ولا شططَ في القول هنا إِنَّ مجتمعاتِنا العربية في حاجةٍ كبرى إِلى التحرّرِ منها، وإِلى الالتفاتِ إلى بديهيّة أَنَّ الشعر، أَياً كانت مستوياتُ الإبداع   والغنى فيه، لا يجوزُ أَن يصيرَ مصدر انتشاءِ أُمةٍ تعاني عوزاً في كل شيء، سيّما في ضحالةِ حضورِها في الإنتاج المعرفي والعلمي في العالم، وسيّما وأَنها أُمةٌ منكبة على استهلاكِ ما تُنتجه أَدمغةُ الأُمم المتقدمة ومصانِعها ومعاملِها.

■ عن مجلة «بيت الشعر» العدد الثاني