مجرّد ذرات غبار
تُرى أين ذهب كل ذلك الأثر لمئات الأفلام الهوليوودية التي بثتها القنوات التلفزيونية بعد أن اقتطعت منها مشاهد الجنس والقُبل وتركت كل شيء آخر: من أقسى مشاهد العنف، حتى أشد الإشارات عنصريةً ضدّ الإثنيات والأقليات وأصحاب القناعات الدينية المختلفة؟
أو تلك المشاهد حينما كان الانتصار مرهوناً برفع العلم الأمريكي في مشهد نهاية ؟ وحينما كان العدو جاسوساً سوفيتياً يحاول السيطرة على العالم أو زرع قنبلة في الولايات المتحدة- اللهم إن لم يكن الخصم كائناً فضائياً يهدد كوكب الأرض بحيث تضطر قيادتا الدولتين الاتحاد وترك خلافاتهما الأرضية - أو إرهابياً يجعل مشهد انهيار برجي التجارة يبدو شديد الهدوء..
ما مصير تلك المقولات الخفية للأفلام، وتلك الإشارات العابرة والعلنية، حينما كان جيشٌ كامل يستنفر مخاطراً بحياته لإنقاذ ابنٍ، أصبح وحيد أمه، لإعادته من الخدمة العسكرية، وفِرقُ إنقاذٍ وإطفاءٍ وشرطة يشحذون كلّ قواهم كي يخلصوا طفلاً على سطح ناطحة سحاب أو هرّاً على شجرة؟! وحينما كان البطل منتصراً ملهماً منقذاً أبداً، سواء كان نملةً في فيلم رسومٍ متحركة، أو ضابطاً في الجيش أو سائق سيارة أو لاعب بيسبول أو راقصاً مع الذئاب.. وحينما حاولت وسائل الإعلام ومقاطع الفيديو كليب، طوال سنوات، ترسيخ صورة برتني سبيرز كالأيقونة الأشهر للجمال، حتى لو كانت حليقة الرأس، أو خارجة لتوها من مركز إعادة تأهيل، في الوقت الذي أصرّت القنوات التلفزيونية على إقناع الجمهور بأن أعتى المشكلات والصراعات العائلية تُحل ببعض النصائح السحرية التي يدلي بها «الدكتور فيل» على الهواء وسط دموع وتصفيق الجمهور. عندما كانت ألعاب الكومبيوتر والفيديو تُحوّل الموت إلى مجرّد لعبة، والقتل إلى أداة تمكن اللاعب من الإرتقاء عبر المراحل، وعندما كان جسد المرأة الأداة لزيادة مبيعات العلكة ومواد التنظيف والمناديل الورقية..!!
في المقابل، بعيداً عن شاشات التلفاز هذه، وعلى كامل مساحة الكرة الأرضية، كان هناك أغانٍ وأهازيج شعبية تكافح لتصمد في وجه البوب والراب، بشرةٌ سمراء أو عيونٌ ضيقة صغيرة وأجساد ضخمة، تحاول إثبات وجود صورةٍ أخرى للجمال.
كانت هناك آلاف الخسارات والنهايات الحزينة، حينما لم يكن يكفي أن «يريد المرء شيئاً كي يصبح حقيقةً» ولم تحقق تعويذة «كن نفسك» النتائج الكافية لقلب الحياة رأساً على عقب أو نيل السعادة. وحينما كانت الانتصارات -إن حصلت- غير مرهونة برفع علمٍ واحد فقط!. في بقاع أخرى من العالم كانت المجازر والمجاعات تحصل كل يوم دون أن يأتي أي منقذٍ لإيقافها لأن ضخامة أعداد الضحايا يلغي جانب الإثارة ويجعل المهمة مستحيلة!
كان الحديث عن الوطنية والثقافات الأصلية، السيادة، التاريخ، اللغة الأم، يبدو مملاً مكروراً مُفرّغاً من أي معنى أو دلالة، والكلام عن الغزو الثقافي، والعولمة، وسيطرة ثقافة القطب الواحد، رجعيةً وتخلفاً وضيق آفق!
قد لا يستطيع كلّ تفصيل أو إشارة عابرة في الأفلام والألعاب والأخبار بناء قناعات جديدة لدى الجمهور والتأثير على سلوكه، لكن المشكلة تتجلى بكل ذلك الكم مجتمعاً، بعد أن تكرر عاماً بعد عام، واستأثر بحصة الأسد من القنوات الإعلامية ومنافذ التأثير في الرأي العام. كل تلك التفاصيل الهامشية الخاطفة التي قد يغفلها المرء هي التي تشرح ببساطة ما معنى «الأثر التراكمي لوسائل الإعلام»: ذرات غبار ناعمة، تتكدس في الأذهان مشهداً بعد آخر، صورة بعد أخرى وأغنيةً تلو أغنية.