اللغة الأم.. واللهجات العاميـة
إنّ الاهتمام بدراسة اللهجات العامّيـة الحديثة، والعمل على محاولة إصلاحها، ورفع شأنها، حتى تكون في مستوى النتاج الأدبي الشعبي، ضروري لأجل مقاربتها والارتقاء بها مع العربية الفصحى، لأنّ اللّهجة العامّية ما هي إلاّ عربيّة محرّفة، دخلتها طائفة لا بأس بـها من الألفاظ الأعجمية، وهذا كلّه قصد رفع الحواجز والعوائق قدر الإمكان بين الأقطار العربية في الاتصال والتخاطب والتّفاهم فيما بينها، بهدف تحقيق لهجة عامّية واسعة تشبه العربية الفصحى، وتقترب إلى حدّ ما من لغة الأدب والشعر.
لقد نجح المستشرقون في معرفة اللهجات العربية الحديثة وألّفوا كثيرا من الكتب عنها وعن قواعدها، وصاروا يعرفون اللغة العامية المصرية، والعامية في تونس والجزائر ومراكش وطرابلس وتسمى لهجـات بلاد المغرب، وتدخل فيها لهجة كانت لغة محادثة في يوم ما في جزيرة صقلية، ولا يعرف عنها الآن إلاّ القليـل، وقد عرف عن لهجات سورية، وبلاد العرب الجنوبية والداخلية والأقطار الشرقية الأخرى أكثر مما كان معروفاً من قبل، ولا يزال لدى العلماء واللّغويين مجال عظيم للبحث، حتى يمكن ترتيب اللهجات ووضعها في أقسام معينة.
وقد ذكر الدكتور إبراهيم أنيس السرّ في تباين هذه اللّهجات الحديثة وذكر أنّها أوّلاً انحدرت من لهجات عربية قديمة متباينة، فلم تكن القبائـل التي نزحت إلى هذه البيئات ذات لهجـة واحدة، بل قد وفدت إليهـا في عهـود الغزو الإسلامي وبعده ومعها لهـجاتها المختلفة، وأقامت بها وكل منها يحتفظ بخصائصه ومميزاته في لهجات التّخاطب التي تأثّر بها أهل البلاد المفتوحة، وبدؤوا يحذون حذوها في لهجات كلامهم وفي تخاطبهم، هذا رغم أنّ تلك القبائل قد احتفظت جميعها باللغة النموذجية؛ لغة الأدب والدّين التي نزل بها القرآن، فكانوا بها يكتبون ويقرؤون، وينظمون الشعر ويخطبون. فإذا خلوا إلى أنفسهم، أو عنّ لهم من أمور حياتهم ما ليس بذي بال عبّروا عنه بلهجتهم الخاصة، دون حرج أو تردّد، فكلامهم في حياتهم العادية كان يخالف إلى حدّ كبير لغة الكتابة والأدب التي كانوا يلجؤون إليها في المجال الجدِّي من القول.
وتلك اللهجات المتباينة التي وفدت من شبه الجزيرة قد غزت بيئات معمورة يتكلم أهلها لغات غير عربية، منها القبطي والروماني والفارسي والآرامي والأمازيغي وغير ذلك من لغات كانت شائعة في البيئات التي تناولتها الفتوحات الإسلامية، وهنا كان لابدّ من صراع بين اللهجات الغازية واللّهجات المغزوة أدّى في معظم الحالات إلى انزواء اللهجات المغزوة، أو القضاء عليها قضاءً تامًّا ولكنّها لم تنزُو أو لم يقض عليها إلاّ بعد أن تركت بعض الآثار في اللهجات الغازية من النّاحية الصّوتية على الأقل. وانحرفت في ألسنة أهلها انحرافاً خاصا اقتضته عاداتهم الصوتية المتأصّلة ومناهج ألسنتهم الأولى، وتأثرت ألسنة الجاليات العربية نفسها في كل منطقة من هذه المناطق بألسنة أهلها، فنشأ جراء ذلك في كل بلد من هذه البلاد لهجة عربية تختلف عن لهجة غيرها.
فالعربية في الشام مثلا متأثرة بالألسنة الآرامية القديمة وفي المغرب باللهجات الأمازيغية، وعلى الألسنة القبطية في مصر.
وأخذت مسافة الخلف تتسع بين هذه اللهجات حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض: فلهجة العراق أو لهجة المغرب مثلا في العصر الحاضر لا يفهمها المصري إلاّ بصعوبة وفي صورة تقريبية، غير أنّه قد خفّف من أثر هذا الانقسام اللّغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين.
لقد مال العرب - رغم كل ذلك - إلى إيجاد لغة تتماشى والفطرة الإنسانية في الكلام وأساليب العيش، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وفسادها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصريف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقومة لها وعادة اللّغة في اللحن بعد أن كانت لحنا في اللغة.