في ذكرى رحيل الشيخ إمام.. حادي قوافل الضمير
حين جاء الشيخ إمام إلى الشام شتاء عام 1984 عرَّف عن نفسه قائلاً: أنا إمام محمد عيسى، ولدتُ في اليوم الثاني من الشهر السابع عام 1918 في قرية قريبة من القاهرة تدعى (أبو النمرس) من والد يعمل بائعاً متجولاً لمصابيح الكاز يُضيء القرى والنجوع المجاورة.
وفي شهري الرابع أو الخامس فقدتُ بصري بالطريقة نفسها التي فقد بها طه حسين بصره. والدتي تقول أنه حسد، وأنا مؤمن بالحسد لأنه ذُكر في القرآن. وقد أعجبتني المقولة التي تقول: رُبَّ ضارة نافعة، لأنه لو لم أفقد بصري لما صرت ما أنا عليه. ومن السموم الناقعات دواء وفي الخامسة من عمري أخذني والدي إلى الكتاب لحفظ القرآن.
وقد حفظته في الثاني عشر من عمري. وبعد أن حفظت القرآن وفهمته وجوّدته، أخذتُ أكتشفُ فيه كل يوم عالماً لا نهائياً من المقامات والألحان. وحين أقرأ القرآن أشعرُ أن علاقة ما تقوم بين الأرض والسماء وأنني أسهمُ فيها. تعودتُ وأنا طفل في السادسة من عمري أن أستمع إلى أمي وخالاتي وعماتي في الريف وهن يغنين غناء فطرياً كان يستريح إليه وجداني، أجلس معهن كما يجلس المريض إلى الطبيب، وأظل أستمع إليهن بينما يسيل دمعهن وجداً وهن يغنين.
في ذلك الحين كان يوجد في قريتنا جمعية شرعية، وهي جمعية أنشأها في بداية القرن العشرين الشيخ محمود خطاب السبكي، وهو أحد علماء الدين الأفذاذ. كانت الجمعية تتولى إيواء الفقراء وإطعامهم، ويعيش في رحابها المقرئون ورجال الدين المعدمون، وكنتُ أقرأ القرآن وأعمل منشداً مع الوعاظ الذين ترسلهم الجمعية إلى الأفراح.
كانوا يذهبون ليحكوا السيرة النبوية بشكل غناء ديني. عملتُ مع عدد كبير منهم لأنهم رأوا في صوتي ما يصلح لذلك واستأذنوا والدي في الذهاب إلى القاهرة لأهذب صوتي. ذهبتُ إلى القاهرة وقضيتُ في هذه الجمعية خمس سنوات تعلمت فيها الكثير. كان الشيخ السبكي رجلاً كبير القلب واسع العلم رغم أنه ظل أمياً حتى بلغ الأربعين حين درس المنطق في الأزهر.
كان رجلاً عطوفاً إلى حد أشعرني موته باليتم الأبدي. بعد موت الشيخ السبكي تولى إدارة الجمعية ابنه ومجموعة من العلماء وكانوا يرون أن قراءة القرآن في الراديو امتهان لكلمة الله، وأن سامع القرآن لا ينبغي أن يتسلى.
كان البلبل الصداح في الإذاعة في تلك الأيام هو القارئ العظيم الشيخ محمد رفعت، وكان أشهر من نار على علم، كما يقولون. فكنت أستمع إليه، فلما ضُبطت متلبساً بجريمة الاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت من مذياع أحد المقاهي، فُصلتُ من الجمعية وطردتُ دون استئناف. أصبحتُ في تلك الأيام بلا مأوى ولا مورد، طلبتُ الغفران فلم يستمع إليّ أحد. كنتُ أمضي النهار متجولاً في شوارع حي الغورية والأزهر والحسين وأقضي الليل في جامع الأزهر. علم أبي وهو في الريف فجاء القاهرة ووجدني فصار يصفعني ويضربني ويشتمني ونكّل بي نكالاً شديداً واتهمني بالكفر والزندقة وطلب مني أن أعتذر وأعود. وهكذا كان إلا أنهم رفضوا عودتي. والحقيقة لهم الشكر في عدم قبولي لأن هذا الأمر كان سبباً كي أدرس الموسيقا التي هي في كياني منذ صغري.بعد تشرّد أقمتُ في حجرة صغيرة في حي الغورية وكنتُ أقرأ القرآن في البيوت والدكاكين مقابل الطعام أو قروش قليلة. كان عمري ثماني عشرة سنة حين بدأت الذهاب إلى الأفراح واحتفالات الختان هاوياً للغناء، ولأنني لم أكن قد تعلمتُ العزف بعد. فقد كنتُ أصطحب معي في هذه الحفلات عواداً وضارب رقّ.
في البداية كان لدي فهم خاص بأن الإنسان الضرير لا يمكن أن يتعلم العزف على آلة موسيقية وأن هذا الشيء خاص بالمبصرين فقط. هذا على الرغم من دراستي النظرية للموسيقا دراسة متكاملة، فكنت أعزف النغمات بكل محتوياتها.
إلى أن صادفتُ أحد الأخوة وهو مكفوف مثلي يغني ويضرب العود، فصممتُ على التعلم بمساعدة أحد الرفاق وهو صاحب صالون حلاقة اسمه كامل الحمصاني وهو عوّاد ماهر، فاشتريتُ عوداً في هذه الفترة بخمسين قرشاً، ولم أنقطع في الوقت نفسه عن قراءة القرآن كراتب أسبوعي في بعض المحلات والمنازل، والتقيت بهذه الفترة بأستاذي الشيخ درويش الحريري وهو إمام عظيم في علم الموسيقا، وحقيقة احتضنني الشيخ درويش ولم يضنّ عليّ، كما التقيت الشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح و علي محمود والشيخ محمد رفعت، وغيرهم من العباقرة الذين تعلمت من مناهلهم الكثير، وأنا ما زلت تلميذاً وحتى آخر لحظة من حياتي، ومن ظنّ أنه عَلم فقد جهل لأن العلم من المهد إلى اللحد.
كان الشيخ زكريا أحمد قد بدأ في تلحين أغنيات أم كلثوم في نقس الحجرة التي أسكن فيها الآن، والتي لم يغيرها الزمن كثيراً، وكنتُ أحفظ ألحانه لدرجة كنتُ أغنيها على أهل الحارة قبل أن تغنيها أم كلثوم. هذا الأمر كان يحدث في أربعينيات القرن العشرين أثناء الحرب العالمية. بقيت على هذه الحال حتى عام 1945 وحينها تركتُ القراءة واحترفتُ الغناء.
مرت الأيام إلى أن التقيت سنة 1962 بالشاعر الشعبي الأصيل أحمد فؤاد نجم وكان همزة الوصل في هذا اللقاء إنسان شريف عظيم من حينا اسمه سعد الموجي الذي أخبرني ذات يوم أنه رأى ديواناً لشاعر فأعجبه ما فيه من نصوص. وقد التقى به وأراد أن يجمع بينه وبيني كي نعمل سوية. ففرحت بذلك، وفعلاً في أحد الأيام وكان يوم جمعة- والله أعلم - دخل غرفتي سعد الموجي مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، ثم طلب أن أسمعه شيئاً، فقلت لحناً للشيخ زكريا أحمد وبعد أن سمعني أكثر من مرة قال لي لم لا تلحن؟ فقلت لم أجد من يعطيني كلاماً ألحنه. فصار يكتب وهو جالس وبعد برهة أسمعني كلمات قصيدة عاطفية لحنتها في الحال وسهرناالليل ننشد الأغنية وكانت هذه أول عمل بيني وبين الشاعر أحمد فؤاد نجم.