أعمى لثلاث دقائق..!(*)

أعمى لثلاث دقائق..!(*)

الرابعة بعد الظهر، الجيران نائمون.. وهدوءٌ يلفّ المكان بعباءته المهترئة، والتي لم يتبقَّ على وداعتها إلا ساعةً على الأكثر ليبدأ مهرجان الصخب بتمزيقها وتحويل المكان إلى ميدانٍ زاخرٍ بكل فنون المفرقعات والضجيج.

ينبغي الاستعداد للمشاركة القسرية في هذا المهرجان اليومي، ولعل التمدد والاستلقاء والتأمل وإقامة البروفات الشفهية لما سيجري في المهرجان، خير وسيلة لتمضية الوقت. ولكن أكوام التعب تجثم على جسدي الآيل للسقوط في بئر الهزيمة، ولم يعد في روحي مكان لتقبّل أيةفقرة من المهرجان.. إن مجرد ذكره هو الرعب بعينه.. سأحاول الرقاد فلربما تنجح محاولتي.

طمرتُ نفسي بالبطانية لاكتساب بعض الدفء. وبدأتُ بتذكّر ما طاب لي من أحداث ومواقف مرت في حياتي.. مما جعلني أنعم بقليلٍ من الراحة، فعلتْ فعلها في جسدي ونقلتني إلى ملكوت النوم لأكثر من خمس دقائق. استيقظتُ بعدها على خبطة جاري وهو يتعارك معجرذ! رفعتُ البطانية عن رأسي لأستوضح النتيجة، ولكنني وجدت نفسي وقد غرقت في بحر من الظلمات!

يا إلهي! ماذا جرى لي؟! إنني لا أرى شيئاً البتة!

جلستُ بسرعة ونظرتُ باتجاه ساعة يدي المستلقية إلى جانبي، فلم أجد شيئاً!

تحسّستُ موضعها براحتي وتلمّستها! إنها موجودة، لكنني لا أراها!

السواد في كل مكان!! ماذا جرى لي؟!

فركت عينيّ جيداً.. أغمضتهما وفتحتهما مراراً.. لكن الأمر سيان!

ترى، هل أُصِبْتُ بـ.....؟ لا يعقل ذلك!

لا شك أنني في حلم، بل لأقل إن كابوساً مريعاً يجهش في منامي ويجب أن أوقظ نفسي بسرعة لأتخلّص منه ومن مزحه الذي لا يطاق!

قرصْتُ رقبتي وصدري وبطني.. قرصات متفاوتة الشدة.. لكن بلا فائدة!

هل.. هل أُصبت بالعمى؟!!!

غير معقول، لا يمكن التسليم بهذه البساطة؟!

لكنني لا أرى شيئاً!

فركتُ عيني مجدداً.. من المؤكد أنني أعاني من كابوس ضمن حلم.. لقد حدث معي ومع غيري مرات عديدة، وليس غريباً أن أكون الآن بحالة كابوس ضمن حلم. وإذا أردتُ مناقشة هذه الحالة منطقياً، فهل يمكنني تكذيب ما أنا فيه؟

  إن الضغط المتواصل على عينيّ من جرّاء العُصابة (الطمّاشة) ولفترات طويلة يمكن أن يُحدث ضعفاً في البصر، ولكن أن يفقده كلياً! هذا غير معقول ولا ريب أن في الأمر «إنّ» كما يقال.

  أصغيت هنيهة لثرثرتي الصامتة في خضمّ السواد المحيط بي من كل جانب، أحسستُ بقشعريرة تعصف بي، بنشيجٍ يتصاعد في دمي.. بدموعٍ تتحفّز على المسيل.. وبصوتٍ مبحوحٍ مخنوق ندّت مني آهة مفعمة بالقهر: لقد أصبحت ضريراً يا ضياء!

انحبست أنفاسي.. تمنيت الموت، رجوته، توسلت إليه..

سأصرخ بكل ما تبقّى من صوتي وأشتمهم وأبصق في وجوههم..

آه لقد انتهيت..

فجأة تضيء اللمبة أمام الزنزانة، وتمزّق ستائر الظلام، وترشقني ببعض أشعّتها الشاحبة، وترسم على الجدار ظلال القضبان.. لأكشف سرّ (العمى المؤقت) الذي أُصِبْتُ به.

لقد كانت الكهرباء مقطوعةً عن الفرع – لدى إغفاءتي – أسوة بأغلب مناطق القطر ضمن برامج التقنين المعتمدة من وزارة الكهرباء.

فرحتُ.. انتابتني رغبة في الضحك.. وعاتبتُ نفسي كيف لم أفسر ذلك الظلام باحتمال انقطاع الكهرباء..

ربّاه! هل سيتكرر ما حصل مع (رجب) في  «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، مع رجب آخر؟

 

(*) مقتطف من رواية (في قبضة الحليف) تأليف كاتب هذه السطور.