لغة الأم ولغة الأب
زكريا محمود زكريا محمود

لغة الأم ولغة الأب

مررت مرة، ومنذ زمن بعيد، بتجربة لغوية لم أمر بها من قبل، فقد كان عليّ أن «أترجم» نصاً مسرحياً كتبته من العربية إلى العامية. ولم يكن الأمر سهلاً، فقد أحسست بأن «الترجمة» أفقدت النصّ جزءاً كبيرا من إيقاعه وتأثيره عليّ

والعلاقة بين العامية والعربية ليست بالعلاقة الهينة، لذا لا يمكنني أن أقول بثقة أنني «أترجم» من الواحدة للأخرى. إذ يبدو لي أنهما تتواصلان بطريقة غريبة لا تشبه التواصل بين لغة ولغة أخرى. فأنا حين أتحدث بالإنجليزية، كغريب عنها، أنشئ نصي في دماغي بالعربية ثم أترجمه للإنجليزية، لكن في العامية لا تجري الأمور هكذا، على الأقل عند المثقفين المتمكنين من اللغة العربية. فالنصّ العامي والعربي يتداخلان ويسيران معا.

لكنني لا أدري إن كان الأمر كذلك مع الذين «يعيشون» العامية أكثر من المثقفين. فأنا مثلا أتحدث العامية، لكنها عامية المثقفين القريبة من الفصحى. ومع ذلك فأنا أحلم في الليل بالعامية، فالحلم يأتي بلغة الأم. لكنني عند التفكير المنطقي لا أستطيع أن أتابع فكرتي، في حدودها الأعمق، إلاّ بالعربية الفصحى، والتفكير الجدي غالبا ما يكون عند الكتابة.

إذاً، فأنا كائن بلغتين: واحدة عند مستوى معين وأخرى عند مستوى آخر. واحدة مربوطة بالطفولة والحلم، وأخرى مربوطة بالنضج والفكر، لكنهما ليستا لغتين منفصلتين تماما. لذا فالعلاقة بينهما ليست سهلة. وأنا أعتقد أن كشف هذه العلاقة، مخبريا، سيكون الوسيلة الأفضل لتسهيل تعلم العربية للأطفال، إذ أن كشف آليات التواصل، يمكن من معرفة أسهل السبل للمرور بين «اللغتين».

هذا الازدواج اللغوي يراه بعضهم في أساس تخلفنا الثقافي، لذا يدعو جزء منهم إلى التحول للعامية. أنا لا أستطيع أن أقول مثل هذا القول. فربما كان هذا الازدواج مفيداً في بعض نواحيه. فابتعاد اللغة العربية عن الشحنة العاطفية للحياة اليومية، يمكنها، دائماً، من أن تكون لغة تفكير باردة، ويمكّن من الذهاب إليها كلغة منطقية. ومن خلال تأكيدات المؤرخين فلم تكن اللغة العربية، يوما، لغة يومية لغالبية العرب. لقد كانت لغة ثقافة وكتابة، ورغم ذلك فقد كانت لغة مثمرة.

والحق أنه حتى اللغات التي لا فرق كبير بين المنطوق والمكتوب فيها، مرغمة على تحقيق قدر من الانفصال عن لغة الحياة اليومية، ان أرادت أن تنتج فكرا وثقافة رفيعة.

فالشحنة العاطفية في العامية تمكنها من إنتاج نصوص شعرية ذات طابع عاطفي ذاتي، لكنها لا تمكنها من كتابة فكرية. لذا فما كتب بالعاميات العربية كان ذا طابع أدبي: شعر، أزجال، أغانٍ، دراما، ولم يكتب بها شيء مهم في الفكر، في ما أعلم.

وحتى في الشعر فإن العامية مضطرة، عند مستوى فكري معين، إلى الاقتراب من العربية. فالعامية لا تستطيع أن «تفكر» إلا إذا اقتربت من الفصحى، وان اقتربت منها إلى هذا الحد فهي ليست عامية فعلا.

العامية لغة الأم، والعربية لغة الأب، أقصد الأب الثقافي الذي هو ذو طابع ذكوري، بشكل عام. لذا يمكن لي أن أقول إن التوق للعامية هو توق للطفولة ورغبة في العودة إلى حضن الأم ورحمها، أما التوق للفصحى فيعكس الرغبة في الابتعاد عن الأم والبيت. وبين لغة الأم ولغة الأب نعيش ونتمزق، أو نتسلى. وبينهما نندب حظنا، أو نفرح به.