«عاود المحاولة لاحقاً.. وشكراً»
ربما هي المرة الألف التي سمعت فيها هذه الرسالة، لكنها ستعاود المحاولة على الفور، استيقظت في هذا الصباح المشمس، وضعت نظارتها السميكة على عجل وانحنت لتلتقط الهاتف الموضوع بجانبها، لقد كانت ليلة مزعجة مليئة بالأحلام السوداء، «يا رب يكون بخير..» تمتمت هذه الكلمات وضغطت على الأزرار واحداً تلو الآخر تستذكر الرقم المطلوب، لكن تلك الرسالة المزعجة بقيت جواباً قاسياً لجميع محاولاتها، لقد رأت صبيها الوحيد في حلم مزعج أرق ليلتها، وعليها الآن أن تطمئن عليه بأي وسيلة، إنها تعلم بأنه قد لا يستطيع الإجابة، لكن قلبها لم يتوقف عن الاضطراب طوال الصباح، «يا رب يكون بخير..» عاودت التمتمة والاتصال.
لم يكن سهلاً سماع صوته، تتذكر محاولاتها اليومية خلال السنتين الماضيتين، قد يمر يومان أو ثلاثة دون أن تتمكن من الحديث معه، لكن صوته كان كافياً لزرع الطمأنينة في قلبها عندما تنجح في ذلك، الحديث مختصر والصوت بعيد، عشرات الدعوات بالحفظ والرعاية تلقيها العجوز عليه وعلى أصدقائه، تسأله عن موعد اللقاء فيقابلها بتنهيدة «قريباً .. قريباً.. حتى تهدأ الأمور»، يضطر إلى إنهاء الاتصال عندما يتعالى صوت الرصاص على صوتيهما، تذرف الأم دمعتين بصمت وتستودعه بمزيد من الدعوات.
«عاود المحاولة لاحقاً»، وها هي تحاول من جديد، وببطء شديد، تستغرق أحياناً عدة دقائق وهي تحاول حل غموض هذا الجهاز العجيب الذي أحضره معه في إجازته الأخيرة، وقدمه لها مع قبلة دافئة على الجبين، «يا أمي مابدي غير شوفتك»، صرخت بحماس وفتحت هدية عيد الأم المكلفة هذه، «بس شو هاد؟»، ضحك الشاب بصخب وجلس بجانبها يشرح لها طريقة الاستعمال، «هادا موبايل.» أخذ يعلمها ويكرر خطوات الاتصال مرات ومرات، «..وهيك صار فيكي تحاكيني كل يوم»، ضمته الأم بشدة إلى صدرها وأمطرته بقبلات كثيرة حتى احمر وجهه.
«عاود المحاولة لاحقاً»، عاودت ضغط الأزرار، ربما سيرد هذه المرة أو ربما سيرد أحد من رفاقه، قد يجيب «أحمد» أو «وائل» أحياناً ليطمئن الأم الملهوفة على ابنها، ليزيل الخوف من قلبها، «ابنك بخير يا خالتي.. بس يرجع بخليه يحكي معك»، يحاول الشاب بفطنة إبعاد الأشباح السوداء عن بال الأم القلقة ويغير الحديث على الفور: «يسلم إيديكي ع المكدوسات يا خالتو..» تبتسم الأم وتدعو للجميع بالصحة والسلامة، لكنها لن ترتاح إلا بسماع صوت ابنها، ابنها دون أي أحد.
لن تيأس الأم اليوم، ستواظب على المحاولة إلى أن يجيب أي كان، كما جرت العادة كلما سيطر عليها القلق، حيث كان هذا الأخير صديقها الدائم، قلق عند كل وجبة طعام، في الصباح والمساء، عند سماع أي خبر بين الجيران او على التلفاز، ستحاول الاتصال به كلما «تصاعدت الاشتباكات» هنا أو «انفجرت سيارة مفخخة» هناك، لا ترحم أنباء التلفاز العاجلة وشرائطها الحمراء قلوب الأمهات، كما أن ألسنة الجارات ليست بأفضل من أنباء الشاشات، سيدفعها حديث «الصبحيات» هذا إلى العودة إلى المنزل لتخرج ذلك الجهاز الصغير من درج خزانتها فيمنح صوته البعيد راحة وابتسامة تحتاجها.
«عاود المحاولة لاحقاً»، بقي الجواب حازماً أمام محاولات الأم المتكررة، تنهدت بحرقة وتوقفت قليلاً عن ضغط الأزرارعندما دخلت ابنتها مع طعام الفطور، لاحظت الفتاة وجه أمها المضطرب وجهاز الهاتف في يدها، «اخوكي ماعم يرد من الصبح.. شو أعمل؟»، شحب وجه الفتاة فوراً، ردت بصوت مخنوق،« بسيطة يا ماما.. بيحكي بعدين»، مدت يدها وخطفت الهاتف بخفة ثم أدنت الطعام منها، «صار موعد الحبة الصباحية.. لازم تاكلي»، اصطنعت الأم ابتسامة وتساءلت، «إلى متى ؟». تناولت الفتاة ملعقة لتطعم والدتها المريضة دون أن تستطيع تجاهل ذلك السؤال. لقد مضى على جنازة شقيقها أكثر من سنة، لن تنسى بكاء والدتها الحار وهي تهمس في إذن شقيقها النائم في أكفانه، تدهورت حالة الأم الصحية منذ ذلك الحين وقضى خرف الشيخوخة على ما تبقى من ذاكرتها، تعلم الفتاة بأنها سترى ما تراه غداً وبعد غد، ستعاود الاتصال بشقيقها كل صباح كما فعلت طوال تلك الشهور دون جدوى، لن ينفع أن تقول لها شيئاً بعد أن سيطر هذا الداء على عقلها.
سيزول بعد ساعة كل جديد ليبقى في البال والقلب قلق على ابن مسافر يسكن في تفاصيل ساعات النهار والليل الطويلة، فلتكمل الأم فطورها ولتأخذ حبات الدواء المخصصة لها ولنحفظ القليل من دموعها، «أخي بخير يا ماما.. حكى معي مبارح»، تجيب الفتاة بحماسة مزيفة وهي تناول الأم حبة وكأساً من الماء، تبتسم الأم وتريح رأسها على الوسادة، «الله يطمن قلبك يا بنتي.. رح جرب أنا كمان»، لم تستطع الفتاة تحمل المزيد، نهضت بسرعة تسابق دموعها، لم تعد تقوى على سماع تلك الرسالة الصوتية بعد الآن: «الرقم المطلوب لا يجيب.. الرجاء إعادة المحاولة لاحقاً..»