"نتابع المسيرة" لمارون بغدادي.. عين تلتهم الحكايات والتفاصيل
يطرح الفيلم الوثائقي "نتابع المسيرة" (1980) للّبناني الراحل مارون بغدادي (1950 ـ 1993) أسئلة عديدة، بعضها متعلّق بالجانب السينمائي الذي كان المخرج يصنعه فيلماً تلو آخر، وبعضها مرتبطٌ بالتنويعات ـ المتناقضة في ما بينها أحياناً ـ التي اشتغلها صاحب "بيروت يا بيروت" (1975) و"حروب صغيرة" (1982) و"خارج الحياة" (1991).
تنويعات جعلته يتجوّل في أنحاء البلد قبل اندلاع حربه الأهلية وفي أعوامها كلّها عبر أفلام عديدة أخرجها وهو مقيم في فرنسا، ودفعته إلى تحقيق رحلات بصرية في أركان الاجتماع اللبناني المنقسم على نفسه قبل بداية الحرب، وأثناءها طبعاً. "نتابع المسيرة" يُذكّر بأن بغدادي السينمائي حاضرٌ في ارتباكاته الفنية، وبأن بغدادي المواطن باحثٌ دوماً عن أجوبة معلّقة على أسئلة مفتوحة على كل شيء، أو عن تلك الأسئلة وفيها أيضاً.
بعد 5 أعوام على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، اتّخذ مارون بغدادي من عنوان خطاب لرئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس (نتابع المسيرة) مفتاحاً سينمائياً لولوج عوالم البلد في أحد منعطفاته الجديدة. لكن، هل كان بغدادي مقتنعاً تماماً بأن هناك متنفّساً حقيقياً لإنهاء الحرب وإطلاق ورشة إعمار جدّي؟ الفيلم الوثائقي هذا تجوال سينمائي جميل في بشاعة الحرب وقسوتها، كما في افتقاد السلم ونقصانه. لن يكون مُحمّلاً بأجوبة، لأن براعة السينمائيّ مدركة أن اللغة هنا غير مُطالبة بوضع حلول، أو برسم نهايات. الفيلم الوثائقي هذا أشبه بعين لن تشبع من التهام الأشياء والحكايات والتفاصيل، ولن تبلغ خواتيم المسارات. أشبه بتلصّص يريد اختراق المحجوب أو المبطّن في أعماق المشهد وسطوع مفرداته ومتاهاته، كي يفهم اللحظة ويلتقط المعنى، مع أن اليقين خدعة، والوهم حقيقة.
خطاب الرئيس سركيس ومَشَاهد مبتكرة عن موت ورصاص وأبنية مدمّرة وشوارع مغلقة أو مفتوحة على مدى البحر وأفق غياب البلد، شكّلت كلّها بداية سينمائية للوثائقي هذا، موسومة بتناقضات اللحظة والمعنى. خطاب الرغبة في الخلاص يواجه الانغماس المدوّي في متاهات البلد وناسه. لكن ملامح الاسترخاء تشي بأن اللحظة معقودة على انفراج كان يُمكن حدوثه، بينما بدت الكاميرا كأنها تبوح بأن ما وراء هذه اللحظة أقوى من أن يصنع خلاصاً منشوداً. الروائي في الفيلم امتدادٌ لدويّ الخراب، والوثائقي انعكاسٌ لحالة ضائعة بين إمكانية استعادة سلم أهلي ما، وانفضاض الواقع عن مضمون كلام يُخالف هذا الواقع واسترساله في شيوع المتاهات أيضاً. الروائي تأكيد على فعل سينمائي انعكس على الوثائقيّ، جاعلاً الفيلم مرايا فاقعة بمرارة الذاكرة، وعاكسة أجواء بلد مسرف بخيبات أهله، فإذا بأغنية "يا زمان الطائفية" لزياد الرحباني وجوزف صقر مثلاً تنساب في مسام الفيلم، معلنة قوّة التمزّق وقسوة الانهيارات، كأنها تواجه ما تقوله شخصيات عديدة عن البلد وحالاته. كأنها تقول البلد، بكلّ بساطة.
المصدر: السفير