الأدب في ميزان الفيس بوك
ترددتُ قليلاً قبلَ أن أكتبَ عن هذا الأمر، لكنّني شعرتُ أن المسألة أصبحت واجباً أخلاقياً وأدبياً وليست مزاجاً فردياً، فمن بين الأمور التي علينا الحديث عنها بوضوح، هو أمر الأدب والثقافة، وما حدث من تحوّلٍ نوعي في طبيعة البنية الخاصة بهما في السنوات الأخيرة،
وما أصابَ الناس من وهمٍ في الإحساسِ بالأهمية أو عدمها بناءً على ما يتلقونه من مدائح أو شتائم عن طريق الإنترنت، وبالتحديد عبر صفحات الفيس بوك، حيث أنه الموقع الأكثر شهرة في التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة. سُئلتُ مرةً، ما رأيك في الفيس بوك، هل هو جيد أم سيئ، وكان الناس مازالوا حديثي العهد بالفيس بوك وقتها، فأجبت بوضوح، إن الفيس بوك ليس جيداً ولا سيئاً، هو أداة، وما يجعله جيداً أو سيئاً هو طريقة استخدامنا له، وبالتالي لا يمكن الحكم على الفيس بوك، بل يمكن الحكم على حساب شخص ما في الفيس بوك، فكل شخص هو مفردة داخل سياق عالم كامل، لا يمكن الحكم على العالم من خلاله، ولا عليه من خلال العالم، فالمسألة فردية بحتة، كيف يقوم هو باستخدام هذه الوسيلة، وليست الوسيلة في حد ذاتها. أزعم أنني متابع جيد لما يكتبه الشبان في فلسطين، بالأخص على صفحات الفيس بوك، أو ما يرسلونه لي على الرسائل الخاصة، ومع الوقت، تولدت لدي مجموعة من القناعات، كانت هي السبب المباشر في كتابة هذه الملاحظة، وهي تنبيه لا أكثر ولا أقل، فأنا لا أضع نفسي بمنزلة من يحكم على البشرية من خلال منظاره الضيق، ولكن إذا كنت أعرف قليلاً عن الأدب، فإن ما سأقوله مرتبط به بشكل أو بآخر، فالملاحظات التي أخذت تترسخ لدي كقناعات هي: أولاً: مرتادو الفيس بوك لا يقرؤون النصوص الطويلة بشكل عام إلا في ما ندر، وهم يفضلون قراءة الملاحظات السريعة المكونة من سطر أو سطرين: ثانياً: هناك كم من الأخطاء النحوية والإملائية هائل إلى درجة مقززة، واستعمال خاطئ للمفردات في غير أماكنها، وضحالة ثقافية واضحة تتجلى في الخلط بين المفاهيم، واستخدام أساطير بشكل يعكس عدم فهم الكاتب لمدلول الأسطورة أو الحكاية. ثالثاً: هناك سرقات واضحة، مع عدم قدرة على الهروب من منطق الجملة المسروقة في الأساس، مما يشكل فضيحة في أغلب الأحيان، ويشكل إزعاجاً بالطبع للسارق، حيث أنه لا يخجل من كونه سرق جملة أو نصاً أحياناً، بل يزعجه أكثر أن سرقته لم تنطلِ على القراء القليلين الذين يملكهم في قائمة أصدقائه. رابعاً: كلمات مديح هائلة تطلق باتجاه أناس لا يستطيعون كتابة أسمائهم بشكل صحيح، والمشكلة أن بعض هذه الكلمات تأتي من مثقفين ونقاد كبار، وأنا شخصياً أعرف رأيهم الأدبي في الممدوح على صفحات الفيس بوك، وأقترب أحياناً من وضع هذا الكلام تحت تعليقاتهم، لكني أتراجع رأفةً بهم. خامساً: كثيرون ممن يكتبون، أصبحوا يأخذون المصادقة على كتاباتهم من الفيس بوك، بحيث لو حدث أن تمت مشاركة النص مع عشرين شخصاً، وتلقى هذا الشخص عشرات التعليقات، فهذا يعني أن نصه جيد، ولا يمكن النقاش في ذلك، ويصبح منفوش الريش كطاووس، ويبدأ في عملية الإفتاء في الثقافة وكأنه انتهى من العلم كاملاً، وعليه أن يبدأ في تلقين هذا العلم للأجيال الجديدة. سادساً: في ظل غياب حركة نقدية، وغياب الاهتمام المؤسساتي بالأجيال الجديدة، فإن الشبّان أنفسهم أصبحوا يشكلون مرجعية أنفسهم، وفي العادة نقرأ في التعليقات جُملاً مثل: رائع، مبهر... إلخ، ولم يحدث أن وجدت جملة نقدية ـ فيما قرأت ـ تقود إلى تصحيح مسار أو تنقيح لغة أو لفت نظر إلى خطأ، وهذا ساهم في شعور الكتاب بالاطمئنان إلى نصوصهم، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث لكاتب شاب، أن يطمئن إلى نصّه، وهذا الكاتب ـ على ضمانتي ـ سيصل إلى مرحلة الغرور سريعاً، لأن هذا ما يحدث عادةً لمن يطمئنون إلى نصوصهم. سابعاً: يخلو الفيس بوك من النقاشات الثقافية، وفي بعض الأحيان، قد تستمر النقاشات أياماً على صورة سخيفة، أو على جملة لا مبرر لها، فيما لم ألحظ نقاشاً جدياً حول مفهوم لغوي أو أدبي أو تاريخي، إذ أن الجدية غائبة عمن يتعاملون مع صفحات الإنترنت إلى حد بعيد. ثامناً: كل ما ذكرته، لا يلغي أن هناك بعض الأسماء الجادة التي تأخذ مشروعها الكتابي على محمل الصدق والجدية، وربما لا تساعدهم نوعيات القراء الذين يتابعونهم، ولكنهم مع ذلك ماضون في تجربتهم. هناك آلاف الملاحظات الأخرى التي تتعلق بهذه المسألة، ولن أقوم بتعدادها لأنني أظن أن الجميع يعرفون عمّا أتحدث، لكن ما أريد قوله في خلاصة هذا الأمر، أن الفيس بوك وسيلة كي نجعل الناس يقرؤون إنتاجنا الأدبي، ولكي نحصل على بعض الآراء حول نصوصنا، لكنه لم ولن يكون في يوم من الأيام مرجعية لأي شيء، فلا يعني تعليقات أكثر أن النص أكثر جمالاً، ولا التعليقات الأقل أن النص أقل جودةً، وفي النهاية، فإن من ينظر إلى الفيس بوك على أنه مرجعية لخلق شاعر أو قاص أو ناقد، فليستعد لإعادة النظر في هذه المسألة وإلا فإن نظرته ستقوده فعلاً إلى حيث يستحق.