قصة عشق وطن
في عام 2008 زار دمشق أحد أصدقائي وهو صحفي يساري من اليمن، وكان يحمل معه كتاباً باللغة الروسية يتوسده كل ليلة بحب كبير، كان هذا الكتاب «بلدي داغستان»، كان صديقي يحدثني عن نسخته باللغة الروسية كيف تحمل من الجمال الكثير، وبعد سفره دفعني الفضول لأبحث في مكتبات دمشق عن «بلدي داغستان»، ولأجل حظي الجيد كانت دار الفارابي ببيروت قد ترجمت الكتاب وأدرجته في الأسواق..
حصلت على الكتاب بفرحة كبيرة، كان حجمه ضخماً حوالي خمسمئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، إصدار دار الفارابي، ترجمة عبد المعين الملوحي ويوسف حلاق.
لم أدرك أن صديقي كان يخفي عني حقائق كثيرة، وهو يتحدث عن رسول حمزاتوف الذي ولد في قرية من قرية تساداسا، فهو لم يكتب داغستان بلدي كرواية بالشكل الروائي التقليدي، بل كانت في الحقيقة ذكريات وطن، والحنين إلى الوطن، فبعد أن تقرأ «رسول حمزاتوف» يعني أنك ستحب داغستان، كما لو أنها وطنك الذي لم تولد فيه، فحمزاتوف يملك قدرة خاصة على مخاطبة ما هو إنساني ووطني فيك، ليحيله عشقاً لداغستان البلد الذي عاش من أجلها، لا عاش فيه..
إنه يكتب قصة عشق إنسان لوطن، بالأزقة التي تعلم فيها المشي طفلاً، وبجبالها المكسوة ثلجاً.. هو عاشق من نوع نادر، يروي سيرة تاريخية لوطن بشجاعة أبنائه، ببساطة تقاليده العميقة في جذور التاريخ، وترى حاضرها بكل روعته.
داغستان التي قرأناها في تلك المساحة المطرزة بكل أشكال الحياة، وبكل تضاريس الأرض، وبكل نضارة المشهد، المشكل بألف لون ولون. في كل ركن فيها دماء شهداء، وعلى كل صخرة من صخورها عبارات الوفاء للمكان وللأبعد .. وفي مياه أنهارها، بل في المخزون غير المرئي منه، تسليم بروحية من أجادوا العيش عبر تواريخ متطورة لم تتوقف فيها حضارة الإنسان.
رسول حمزاتوف كان ينسج حكايا الحب المقدس، وحكايات شتى في عالم داغستان، عندما نقرأ الرواية من البداية، نجده يذكر بأنه طُلب منه أن يكتب هذا الكتاب عن داغستان، والتي هي موطنه الأصلي، وتنفيذا لهذا الطلب بدأ بالكتابة، يكتب عن نفسه وعن والده وعن أشخاص آخرين شاطروه شيئاً من ذكريات حياته، فعلى ما يبدو أن المقصود من الكتاب، هو التعريف بالمواطن الجبلي الداغستاني بكل وضوح وسلاسة، وأنت تقرأ «بلدي داغستان» تشاهد أمامك رسول حمزاتوف أو تشاهد أباه منهمكا يكتب قصيدة، حيث علاقة فريدة تربط والده بالشعر ، وكان يكتب قصائده باللغة العربية خشية من زوجته.
و أنت تقرأ ذكريات «حمزاتوف» لا تصاب بنوبة ملل مفاجئة أبداً، بسبب انتقاله السلس من موضوع لآخر ومن أسلوب تحليلي إلى قصة أو حادثة، و كتابه عبارة عن نافذة تطل بها على داغستان، العادات والتقاليد دون أن تدري، ومن خلال ذكرياته يضرب مثلاً كيف لا يسأل الضيف عن اسمه وغايته إلا بعد أسبوعين من الإقامة، ويتحسر لأنه لا يتقن، مثل أبيه، «لغة القرآن الإلهي»، أي اللغة العربية التي كان والده يكتب الشعر بها.
إنه رواية حب خارقة لداغستان وعابرة للأنفس والقارات، إنّها اللغة … إنّها رداؤه الخفيّ ورئتنا الخفيّة التي نتنفّس بها العالم، ودونها نشعر بالاختناق، إنّها اللغة التي تظلّلنا قبل السماء وتسقينا الكون و فهمه حرفاً حرفاً، إنّها اللغة التي يكرّر رسول ابن حمزة من قرية تساداسا في داغستان، عشقه و ارتباطه بها، إنّها أمّه التي ولدته، لا يمكن أن أتحدث عن بلدي وان أتجاوز ما قاله حمزاتوف «أيا كان الذي تقابله في الطريق، عدوا كان أم صديقا، فهو مثلك، تماما، إنسان. فلا تنس هذا وأنت تحمل خنجرك»! لكن الناس، وباسم حقائقهم الخاصة لا يلتفتون إلى تلك الوصية. وفي سبيل ذلك، تنازل بعضهم عن بقايا إنسانيته، فنبتت له أنيابٌ ومخالب. فكم خسر من لم يقرأ «بلدي داغستان»