مقر القيادة الشعرية للثورة التونسية: التأسيس التونسي
محمد الصغير أولاد احمد محمد الصغير أولاد احمد

مقر القيادة الشعرية للثورة التونسية: التأسيس التونسي

عندما قرّرَ التونسيونَ التّنازُلَ عن «فضائلِ العُبودية»، والتغلّبَ على الخوف، هربَ الدكتاتور وعائلتُه بما تيسّرَ له من شتاتِ عائلته، وتبعْثرتْ حاشيتُه بين السجون والمنافي، وتوزّعَ النّاجونَ من أتباعهِ ومرتزقةِ حزْبهِ على كراسي الحكم مُجدّداً.

وعندما أتيحتْ للتونسيين فرصةٌ لانتخابِ الكرامةِ والحريةِ (أيْقُونَتَيْ ثورتهم المدنيةِ السلْميةِ المُذهلةِ) اخْتلطتْ عليهم الأمورُ والرشاوى، والخطاباتُ والحلاوى، والخُطبُ والفتاوى، فانتخبوا الخوفَ ذاتَهُ.. الخوفَ بعيْنهِ.. الخوفَ تحديدا..الخوفَ شخصيّاً.

يا سلام على الثورات وهي تتدحْرجُ إلى أسفلِ سافلينَ تاركةً أعالي الجبال للنّسور المجروحةِ برصاصِ الجَشعينَ من صيّادي المعاني النبيلة.

يا سلام على الفلّ والياسمين، وعلى الزعتر والإكليل، وعلى الزيتون والبرتقال، وعلى البطاطس والباذنجان، وعلى الحشيش واليقطين، حينَ لا تكونُ هناك أنوفٌ لشمّها، ولا حقول لزرْعها، ولا جغرافيا للاستئْثارِ بها، ولا طناجرَ لطبْخها، ولا بهائمَ لقضْمها.

في تفاصيل المشهد التونسي ما لا يُسَرُّ بهِ وهو كثيرٌ، وهناك ما يُسَرُّ بهِ وهو ضئيل إلى درجة أنه لا يُشاهدُ إلا بزجاج المنظار.. ثمّةَ مجلسٌ تأسيسيٌ مزدوَجٌ، مِزاجيّاً وسياسياً، لكنْ بأغْلبيتيْن بارزتيْنِ للْعِيانِ:

واحدةٌ مُتحالفةٌ تحالُفاً غيرَ متكافئٍ، والأخرى مُمْكنةٌ وواردةٌ إذا انفرطَ ذلك التحالفُ: شيزوفرينيا سياسية لمزيد من الدقّة وتقريبِ الصورة.. أملٌ غيرُ مستحيل التحقُّقِ إذا شئْنا أن نتفاءل نحن الذين نرى في التفاؤل تلْهيةً لنا عنْ الحياةِ أثناءَ الحياة وتلْهيةً لنا عنِ الموتِ طيلةَ الموت.

وثمّةَ، على أطراف المشهد وداخل كتائبه ومخابئه ودهاليزه، أمراضٌ عنصرية ذات طابع ميتافيزيقي تتجوّلُ بحريّة رغم خطورتها على باقي أفراد المجتمع الذين لم يتثبّتْ أحدٌ من مدى صحّتهم وعافيتهم، فضلا عن التثبت من مدى حاجتهم لثمار الجنّة قبل حاجتهم لثمار عرَقهم الذي سال على تراب بلادهم دونَ أن يُكافؤوا ولو بدرهم واحد.

في ثنايا الخطاب المُلْتَبِسِ للسلفيين، بجميع صنوفهم وفصائلهم المهندسةِ بشكلٍ عسكري لا تنقصُه إلا ملكيةُ السلاح، وهو خطابٌ تعوّدنا عليه لأكثرَ من ثلاثينَ عاماً، يسْطعُ نجمُ قياديين قُدُمٍ وجُدُدٍ، مثلَ كائناتٍ مُسْتهتِرةٍ باللغةِ العربية حيثُ لا يعْني لهم استعمالُها سوى الحنين إلى انحرافاتها الإسلامية الآسيوية المُسيّجة بالطائفية والعنصرية، وبالكذب والمُداورة وبانعدام الدلالة..وإذن بتعطيل العقول عن التفكير وبحثّ الجهل عن استئناف التكفير جهاراً في الشوارع والساحات العامة.

يحدثُ ذلك في الجوامع وفي الاجتماعات العامة. يحدثُ ذلك في قصر باردو حيث كان نوابُ التجمع غير الدستوري وغير الديمقراطي يقولون نفسَ الشيء تقريبا.. لكن بطريقة مغايرة. يحدث ذلك في حصص إذاعية وتلفزية كثيرة ومتنوّعة وهبَها الزمنُ الكلبُ مُقدّمينَ ومحاورينَ ومنشطينَ لا يُحْسنونَ طرحَ الأسئلة ولا يتثبّتُون ممّا إذا كانت الأجوبةُ أجوبةً على أسئلتهم أم استنفارا مباشرا للقواعد الحزبية لمدعويهم.

وهنا نسأل هؤلاء القياديين (الحداثيين في التلفزة، والرجعيين في الاجتماعات الحزبية، والعسكريين في قرارة أنفسهم)، نسألهم على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر:

هل أنجز التونسيون ثورةً بأسْرها من أجْلِ أنْ لا يتعرّفَ الأستاذُ على طالبتِهِ المُسَجّاةِ داخل جلْبابٍ أو حِجابٍ أو نِقاب؟

هل دفع التونسيون الشهيدَ تلْوَ الشهيدةِ تلْوَ الشهيد ليُرْغِمُوا شركةَ السكك الحديدية على تحْويلِ عَرَبَةٍ في كل قطار إلى مُصَلّى خصوصاً إذا كانت الرحلةُ تمْسحُ صلاتيْنِ مُتتاليتيْن أو أكثر؟

وهل قام التونسيون بما قاموا به من أجل تجْفيفِ المائدة المائية، دفعةً واحدةً، وذلك بتجريم شربِ العنبِ المُعالَجِ، واللّعابِ الخصوصي، والأدويةِ السائلة، والشاي، والقهوةِ، والعصيرِ،، وسائرِ أنواع المشروبات الغازية؟

لقد بِتْنَا نعْرفُ عددَ الكراسي التي تحصّلتْ عليها بعضُ الدول الخليجية الآسيوية، ذات المجتمعات الموغلة في المحافظة، وبعضُ القنوات التلفزية المختصّة في تحويل وجهة الثورة التونسية، داخلَ قبّة المجلس الوطني التأسيسي، غير أن معرفتنا بذلك لا تُبيحُ لنا دفعَ النُواب الجالسين على مسامير تلك الكراسي للتخلّي عن تونسيتهم مقابل جنسية هلامية هدفُها أسْلمةُ التونسيين المسلمين، وأسلمةُ اليهود والنصارى والبوذيين، وأسلمةُ من لا ديانة لهم سوى أساطير الأجداد.

في عالم الضحك عند الحيوان لا تضحكُ إلاّ البقراتُ الهولندية وجاراتُها الدنماركية.. وتحويلُ الثورة التونسية إلى مهرجان للضحك هو ما تسْتلزمُه مواصلةُ الثورة في هذه اللحظات بالذات.. ذلك أن الضحكَ، المقرونَ بالفكاهة والدعابة والسخرية، هو وحده الكفيلُ بفصْل الدّالِ الأخلاقيِ عن المدْلولِ الاستبدادي، وبفضْح مظاهر التّقْوى في السياسة باعتبارها مَدْخلا لتذْويبِ القوانين والمواثيق الوضعية في السائل الكيمياوي للرغبة في السلطة والتسلّط عند بعض النُّخب، مقابلَ شحْنِ يوتوبيا الحياة الدائمة بعد الموت عند مريدي وأتباعِ تلك النخب.

لقد كان معدل أعمار التونسيين رئيسيْن وعاميْن بحسابِ رئيسٍ كلَّ ثلاثينَ سنة، فإذا بهذا المعدل ينخفضُ، مع تركيبة المجلس الوطني التأسيسي الحالي، إلى أقلّ من شهر واحد، بدليل يأْسِ الملاحظين والمعتصمين والمحتجين على ما بدا لهم تباطؤا مقصودا لدى أغلبية أعضاء المجلس في النظر إلى الاجتماع والاقتصاد، والى الحياة بصفة عامة، نظرة المتعافي من عُقده السياسية ومن عقائده التي تتلوّنُ، بحسب فقْر قراءاته للفكر وللإبداع الإنسانيين.. وكأنّ كلَّ ما يمكنُ أن يقالَ قد قيل سابقا.. ولم يعُدْ ثمّةَ بالإمكان أحسنَ ممّا كان.

لا نعرف ما إذا كان الساهرون على المعاني السياسية، وخصوصا منهم المالكون المزْعومُونَ لعَقاريْ الهوية والدين، يُتْقنونَ اللغةَ العربية ويعترفون بكبار اللغويين والشعراء والأدباء، المقتولين منهم وغير المقتولين، الذين جعلوا منها فضاءً رحباً للموهبة والخيال، وحرّروها من قيود السلفِ. السلفِ الصالحِ أحيانا، وغير الصالح في أغلب الأحيان..

وإذا كانوا يتقنونها فلماذا اختاروا الـ«موت» كاختصار حَرْفي غير مُعرَّفٍ للمجلس الوطني التأسيسي؟

هل فعلوا ذلك لتجنُّبِ وصْفه بالقومي حتى لا يصيرَ الـ«مقت» عندَها اختصارا حرفيا لنفس المجلس؟

أم كانوا ساهين جميعا، مثل الحكام العرب المخلوعين، عن وظائف اللغة، وكانوا منتبهين فقط إلى لغة العامة والى لغة الإعلام والخبراء وإلى لغة العلاقات الدولية، والى لغة الريالات والدولارات والدنانير؟

ينطلقُ الخوفُ، فيزيولوجياً، مثلَ درّاجةٍ خطّطَ راكبُها الغِرُّ أن يتدحْرجَ من قمّة جبلٍ إلى أسفلِ هاوية. غير أن الشاعرَ يدافع دائما ولا يهربُ أبدا، لكونه قد حرّضَ الشعبَ على «إرادة الحياة» إلى أن أرادها يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد ثم فاز بها يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011 أمام مقر وزارة الداخلية بتونس العاصمة.

ولأنّه يعرفُ، في جملةِ ما يعرفُ، أن الديمقراطية تبدأ بحرف الدال وأن الدكتاتورية تبدأ بالحرف نفسه.. فقد ارتأى، في هذه اللحظات المخيفة والحاسمة، أن يُعِينَ شعبَه الثائرَ على مزيد تفكيك الخُطب الكاذبة والخطابات الأشدَّ كذباً.. ضارباً عرضَ الحائطِ بمصيرهِ المجهولِ في بلادٍ لا يَسُرُّهُ أن يراها تهربُ من القارة الإفريقية، حيثُ حضارةُ البحرُ المتوسطُ، إلى القارة الآسيوية حيثُ عاداتُ العائلاتِ والعشائرِ والطوائفِ والفقهاء المنافقين.. وحيثُ لا حياةَ ولا دينَ بعدَ نُضوبِ النفط..

من القصورِ إلى السجونِ. من السجونِ إلى المشانقِ. من الدَّعَةِ إلى المنافي.. تتدرّجُ حياةُ الطغاةِ.

من المشانق إلى السجون. من السجون إلى الحريةِ التي تهبُها الثورةُ. من الحريةِ إلى القصور.. تتدرّجُ حياةُ السلفيين. وبمجرّد أن لا يتقابلَ أحدُهما مع الآخر يشرع كلاهُما في حثِّ المجتمعِ على الاقتتال تهْيئةً للعودةِ إلى الحكم أو للانفرادِ بهِ دُفْعةَ واحدةً وفي أقْصرِ وقت ممكن ومهما كانت التكاليف.

عطشٌ للسّلطةِ والتّسلّطِ

لا ماءَ يْرويهِ

ولا مطرَ يفْلحُهُ

ظَمَأٌ.. ظمأْ.

■ شاعر تونسي

عن «مواقع الكترونية»