خداع بصر
«الأجسام أقرب مما تبدو في المرآة .. والأرض أبعد مما تبدو عند ارتداء النظارة الجديدة «هكذا حدثت نفسي بينما كنت أمشي في الشارع، وأنا أسخر من شعوري بأن الجاذبية الأرضية تسحبني إلى الأسفل وأن خطواتي ثقيلةٌ كما لو أنني أشقها وسط الثلج .. بدا بلاط الشارع قريباً من وجهي حتى كاد يلتصق به..
وتحول كل من حولي إلى قصّار القامة.. كان المشي صعباً وكنت أقنع نفسي بأن لا شيء تغير : هو خداع بصرٍ لا غير .. عيناي تحاولان فقط اعتياد العدسات الجديدة .. بدأت أحاول شغل نفسي بتأمل ما فاتني من الطريق في الأسابيع الماضية .. تمر الوجوه أمامي بسرعة كما لو أنني أقلب صفحات كتاب أو مجلة .. أقرأ أسماء المحال التجارية .. أتأمل ألوان الأهرام الصغيرة من البهارات والأعشاب في دكاكين ومحالات البزورية، أعود للتعثر أثناء المشي، أتأفف !.. أتذكر الصراع الفلسفي التاريخي بين الماديين والمثاليين.. وأسخر من فكرة أن صراعي الواهم الآن صراعٌ مثالي.. لأنني أعلم أن الأرض ما تزال في مكانها، منبسطة، حتى لو أنني أشعر بخلاف ذلك.
كم هو سهلٌ الاستسلام للوهم، على أنه الحقيقة.. وإن كان تغيير نظارة استطاع التسبب بكل ذاك التشوش لفعلٍ بسيط، اعتيادي، كالمشي .. فما الآثر الذي تتركه رغباتنا ومخاوفنا في الطريقة التي نرى فيها العالم.. ماذا لو كان كل ذلك خداع بصرٍ لا غير؟!
أستمر في المشي، ابتسم لفتاة ترتدي حقيبة مدرسية، وأفسح الطريق لراكب دراجة ينقل بضاعة.. أفكر : ظننت أنه أحبني، أتراه أيضاً سوء تفاهم؟ ربما لأنني حينها خلعت نظارتي كي أبدو جميلةً أكثر، ففقدت القدرة على التمييز .. ظننت أن ذلك كان حباً .. ولا مجال للتأكد الآن ..
أتذكر مأساة العالمين : الواقعي والافتراضي .. لماذا يبدو لي أحياناً أن العالم الواقعي غير قابل للتصديق؟ لماذا أشعر بالوحدة وأنا محاطة بهذا الكم من الأصدقاء الواقعيين.. بينما هناك في البعيد « صديق مفترض» يعيش في بلاد أخرى إلا أنه أكثر قرباً من بائع «التماري كعك» على ناصية الطريق ؟ عادت خطواتي للتثاقل من جديد متأثرة بالتداعي الحر لأفكاري .. وضاعت الحدود بين الحقيقة والخيال .. المفترض والواقعي ..
وصلت إلى باب المنزل، قررت : « ما كان مشتركاً بين صورتي الحياة من حولي مع نظارة وبدونها كان الحقيقة .. وغير ذلك وهمٌ .. لذا فذلك العناق حقيقيٌ، رائحة محامص القهوة والمكسرات في الشارع حقيقةٌ، من استطاع أن يشاركني تفاصيل يومي، وأنا... "أون" أو "أوف لاين"، الستارة الصفراء لشباك غرفتي، أصوات القصف التي تضج بها السماء، حقيقةٌ .. وعدا ذلك ربما يكون خداع بصر .. »