أفكــار .. إقلاق الذائقة العامة
يؤكد الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو في كتابه «الكاتب وكوابيسه» على «الكذبة الملفّقة» التي صدرتها التقنية المتقدمة للعالم، فهي وفقاً لما يراه، ساهمت في «تسريع وتيرة الكارثة التي تحدّق بالإنسانية»، لذلك،
فإن كتاباته بقيت في منطقة اللايقين... أبطاله مأزومون، تكتنفهم الحيرة، والرغبة في الثأر، بحثاً عن ذواتهم المُستلبة.
في ثلاث روايات أطفأ ساباتو رغباته في فضح الجريمة الكاملة «لفضلات البشرية التعيسة»، ليلتفت لاحقاً إلى نوعٍ من الكتابة التأملية... مزيج من النبرة الذاتية، والفلسفة، والفكر، إذ لطالما كانت لديه قناعة بأن الرواية صنف غير نقي في جميع الأحوال، فهي «لا تخضع للقوالب ولا ترضخ للتقييد». الكاتب الذي عاش قرناً كاملاً، عبرَ أنفاق ومتاهات متعددة، كي يتمكن من «تقيؤ عذابه الداخلي». على هذا الأساس، لن نستغرب تحولاته المتناقضة، من شيوعي صلب، إلى فوضوي، إلى متمرّد صاخب، يمتلك مجموعة شكوك عن عذاباته الخاصة، وليس لديه أي رغبة في أن يسأله أحد تفسيراً لما يكتب. يقول مجيباً كارلوس كاتانيا: (لا نطلب من بيتهوفن أن يفسّر لنا إحدى سيمفونياته، ولا من كافكا أن يفسر لنا لماذا كتب «المحاكمة»).
في الواقع، لم ينل ساباتو عربياً، الشهرة التي يستحقها، مقارنة مع كتاب أمريكا اللاتينية، ولا شهرة بورخيس، ولا حتى مواطنه مارادونا، فهو لم يعمل في منطقة الواقعية السحرية التي صدّرت أسماء بالجملة إلى لغة الضاد، بل سعى إلى إقلاق الذائقة العامة، وإدخالها إلى منطقة كابوسية، بحثاً عن تلك «المتاهة التي تقود إلى سرّ حياتنا المركزي»، كما انساق إلى كتابة السيّر المبهمة. يقول موضحاً اهتمامه «بأدب الحالات القصوى»: «يعيش إنسان اليوم في حالة توتر دائم، وهو يقف وجهاً لوجه أمام الدمار والموت والتعذيب والوحدة»، ويضيف: «إنه إنسان الحالات المتطرّفة، وقد بلغ، أو على وشك البلوغ، نهاية وجوده. والأدب الذي يصف أو يفحص لا يمكن أن يكون شيئاً آخر، عدا كونه أدب الحالات الاستثنائية». قتامة الرواية إذاً، ترجيع لمفاهيم صائبة، تتعلق بمركزية الرؤية، وانعدام الزمن بالمعنى الفلكي، وغياب المنطق، واقتحام اللاوعي للعوالم المظلمة، ما يجعل العمل الأدبي يبدو وكأنه غير منتهٍ، وعلى القارئ أن يكمله أو يطوّره على هواه، ووفقاً لمرجعياته الذاتية. ليس اليأس والتشاؤم وحدهما من يرسم خرائط الأدب، هناك خائب الأمل الذي يقف على الضفة الثانية لمقولة نيتشه «المتشائم هو مثالي مُسّت كرامته»، لذلك، تبدو الحاجة ملحّة إلى «احتواء الفوضى وفحص الوضع الإنساني في هذا الاضطراب كله». هكذا يفتح القوس أكبر نحو قضايا وجودية تلح عليه، وذلك عبر وصايا روحية ورسائل وتقارير، تتعلق بالقيم القديمة، والمدن، والممانعة، والموت، والأرض اليباب، والتسليع العولمي الذي مسخ الكائن إلى مجرد «حشرة كافكاوية مقرفة».
المصدر: تشرين