حضور القدر في «عرس الدم»
كانت كتابة لوركا لمسرحية «عرس الدم» بداية لبعض الأعمال المسرحية الأخرى التي كتبها مثل «بيت برناردا البا» و«لغة الزهور» معبراً من خلالها عن طبيعة الصراعات الاجتماعية في تلك المرحلة المعقدة من ناحية الصراع بين أنماط متضاربة من القيم الاجتماعية والسياسية في ظل احتقان سياسي أدى الى حرب أهلية مدمرة ذهبت بأرواح مئات الآلاف من الناس
تقع أحداث مسرحياته في الريف الإسباني، تحديداً في غرناطة الأندلسية التي ولد المؤلف في إحدى قراها. لم يدرببال لوركا المفارقة التي ستحدث معه في هذا المكان بعد ثلاثة أعوام من كتابته المسرحية، عندما حضر الفاشيون من أنصار فرانكو وعصبوا عيني غارسيا لوركا، وأطلقوا النار عليه، ولم يكن قد تعدى السابعة والثلاثين. عندما قاموا بفعلتهم قالوا له كلاماً يشبه مناخ مسرحياته ويحمل صفة القدر: «إن الرب نفسه لن ينقذك»!
لابد أن يلاحظ قارئ مسرحيات لوركا أيضاً، الحضور الأسطوري لـلأم، حضور طاغ يعادل حضور القدر، ففي مسرحية «بيت برناردا البا» تسعى الأم جاهدة لتوقف التاريخ والزمن وذلك بوضع بناتها في سجن البيت.
الشخصية الرئيسية في مسرحية «عرس الدم» هي الأم. إنها عصب المسرحية ومحرّكها، فالأم، ذلك الكائن الواقعي والخرافي في آن معاً، هي التي تحمل عبء روح المسرحية. قصة المسرحية تقليدية تحدث عادة في مجتمعات الهيمنة العائلية وهي عن خطبة شاب لإحدى الفتيات. تكتشف أم الشاب المهيمنة أن الفتاة كانت مخطوبة سابقاً الى ليوناردو، وهو من عائلة متخاصمة مع عائلتها.
يبدأ تشكيك الأم في الفتاة، أما ليوناردو فرغم أنه تزوج من إمرأة أخرى، إلا أنه ما زال يحب الفتاة بل ويلتقيها سراً. في صباح عرس الفتاه يأتي ليوناردو ويخبرها أنه يحبها. تجد الفتاة نفسها في صراع بين التقاليد ومشاعرها. لكنها في النهايه تستجيب لمشاعرها وتهرب معه. تبدأ مطاردة الحبيبين بتحريض من أم الشاب، وتنتهي بمقتل كل من الخطيب وليونادو..
عرف لوركا كيف يمزج في المسرحية شاعريته القصوى مع الفولكلور الأندلسي الإسباني، ليطلع من ذلك بعمل لا يزال يقدّم في شتى أنحاء العالم وفي مختلف لغات العالم لجماله ولقوته وربما أيضاً لبساطته وشاعريته.
يتصدى لوركا للعادات السلبية المنتشرة حينها في المجتمع الريفي الإسباني، من عادات قتل الشرف، والانتقام، وانتشار الخرافات الدينية والنفاق الاجتماعي والجهل والتماسك العائلي الكاذب، الذي يخفي خلفه الكبت والطغيان الموجود في العائلة، وليس فقط في السلطة السياسية. ولذلك لا تتجسد فكرة الخير والشر في مسرحياته، في شخص واحد، أو أشخاص بعينهم، بقدر ما في مجموع الثقافة التي تنتج هؤلاء.
وتكون شخصياته إنتاج للثقافة، وتصبح فكرة الخير والشر حالة مجتمعية وليست قضية فردية تماماً، يسعى لوركا لبحث الجذور التي تكونها والتصدي لها. وهذا ما يجعل الطغيان بمثابة قدر يسعى البعض لمقاومته. تمكن لوركا من الإستفادة من قدراته الشعرية وحاول أن يرسم عالم إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان من الممكن لنا ان نقرأ له الكثير لو لم يقتله الفاشيون في صباح يوم حزين من أيام شهر آب عام 1936.