(بانكسي) وفن الشارع للنخبة!
فتاة صغيرة تفتش رجل أمن يرفع يديه مستسلماً، طفلٌ فقير يخيط أعلام المملكة المتحدة، ورجلٌ ملثّم يرمي باقةً من الأزهار بدلاً من قنبلة! تلك لوحاتٍ كثر تداولها عبر مواقع التواصل الإجتماعي في السنوات القليلة الماضية وتم اقتطاع أجزاء منها في الحملات والملصقات السياسية وتعود جميعها لفنان الغرافيتي البريطاني المثير للجدل (بانكسي)
لسببٍ غير معروف قرر «بانكسي» إخفاء وجهه وهويته، ليعرف عنه فقط أنه ولد عام1974في «بريستول» إحدى المقاطعات البريطانية. يعتبر أحد عرابي فن «الرسم على الجدران»، الذي شكل مع الموسيقا الإلكترونية الصاخبة جزءاً من حركة فوضوية بدأت في تسعينيات القرن الماضي، في باريس وبريطانيا وأمريكا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى، لتنتقل حُمّاها في مرحلة متأخرة إلى بعض البلدان العربية.
يمكن من خلال التعرّف على «عرّاب فن الغرافيتي» والوقوف على بعض الرموز التي تتضمنها أعماله، الاقتراب من فهم ظاهرة «فن الشارع» وأسباب جماهيريتها وانتشارها بين أوساط المراهقين والشباب، والانتباه إلى المناحي الخطيرة والمتطرفة التي قد تتخذها.
صدمة حضارية..!
يلعب «بانكسي» على عنصر الغرابة والإبهار، يدخل تعديلات على اللوحات الكلاسيكية الشهيرة، لتظهر «الموناليزا» وهي تمسك بيدها كلاشينكوف، أو هاتفاً ذكياً. يمكن أن يتلمس المرء من خلال بعض لوحاته رفضاً لثقافة الاستهلاك السائدة، بتعديل صور عارضات الأزياء، وشخصيات «ديزني لاند». يصورفي إحدى لوحاته سكان أمريكا الأصليين من الهنود وجهاً لوجه أمام عربات التسوّق المعدنية الخاصة بالسوبر ماركت.
يشتهر بانكسي كذلك باعتباره ناشطاً سياسياً يظهر عداءً واضحاً لسياسات الحكومة البريطانية وبعض رموزها، كما يسخر في عدة لوحات من الرئيس الأمريكي بارك أوباما. في إحدى عروضه المفاجئة، زرع الفنان البريطاني مجسماً لأحد المعتقلين في غوانتانمو في «دزني لاند»! وفر هارباً قبل أن تسري نوبة الهلع بين السوّاح الذين لم ينتظروا أكثر من مشاهدة «ميكي ماوس»! كذلك يتكرر في لوحاته– وغيره من فناني الغرافيتي- رمز الجرذ بوصفه «الحيوان البري الوحيد الذي يعيش في المدن، تحت الأرض، الذكي، القوي، وغير المرغوب به» في انعكاس للصورة التي يرى فيها فنانو الغرافيتي أنفسهم ضمن مجتمعاتهم.
إسقاط «بامبي»!!
تعلن أعمال بانكسي رفضاً للحروب، حينما يستبدل المسدسات بقرون الموز الصفراء، تركّز على معاناة الأطفال بوصفهم ضحايا الجوع والصراعات المسلحة. وفي هذا الصدد بادر بانكسي عام 2005 ليرسم على جدار الفصل العنصري في فلسطين فتاة تطير في السماء بعد أن حملتها البالونات ومقص كبير يقطع الجدار الإسمنتي الكبير. قوبلت تلك الخطوة بالرفض والاستنكار من قبل الأوساط الداعمة لإسرائيل، بالرغم من أنها في جوهرها لا تبتعد عن الترويج لفلسفة «اللاعنف» المثالية في حل الصراع العربي الإسرائيلي، والدعوة للسلام بين الطرفين. خلال السنوات القليلة الماضية كثر ربط «بانكسي» بحركات الاحتجاج الشعبية، ويمكن تلمس أثره على جدران مدن القاهرة والإسكندرية التي ينشط فيها فن الغرافيت.
فيما يتعلق بالشأن السوري، قدّم الأخير مقطعي فيديو يصور أحدها إسقاط «بامبي» الفيل الطائر، من قبل بعض الكتائب الإسلامية، فيما نشر مؤخراً فيديو «غير موفّق» يحض فيه السوريين على التمسك بالأمل من خلال رمز الفتاة التي تحاول الإمساك ببالون طائر يحملها بعيداً عن بلادها المدمرة!!
راديكالية «شوارعية»
بالإضافة لملامح الابتكار والجدة وسعة الخيال، تعكس أعمال «بانكسي» أيضاً، درجة الاغتراب والرفض الذي يعيشه الشباب ضمن المجتمعات الرأسمالية، معظم الفنانين المؤسسين لهذا الفن من المهمشيين الفقراء الذين لم يدخلوا كليات الفنون العريقة، اعتمدوا على بخاخات الطلاء والملصقات والطباشير وغيرها من المواد رخيصة التكلفة لإنتاج فن «شوارعي»، يصدم الناس بعيداً عن أروقة المتاحف الفاخرة. في المقابل، أنتجت الجذور الاقتصادية الاجتماعية لهذه الظاهرة فناً متطرفاً، يوصف بالراديكالية والفوضوية العبثية، حينما يروّج للشيء ونقيضه في الوقت ذاته، ولا يفرّق بين الحكومات ومنشآت الدولة، ويستبيح المرافق العامة محولاً إياها لمجرد صفحات بيضاء.
كان الهدف الأساس تقديم فن شعبي يصل للناس أينما وجدوا، لكنه تحوّل لسلعة رأسمالية جديدة، وملمحاً للعولمة. تباع لوحات بانكسي الجدارية اليوم بأسعارٍ خيالية في المزادات العلنية، ويركّز الإعلام بكثرة على هويته المجهولة وعناصر الغرابة والفردية والخروج عن المألوف، بغرض تفريغ هذه الحالة من محتواها، وتغيّب جذورها الاقتصادية والاجتماعية لتصبح مرةً أخرى جزءاً من المنظومة التي حاولت يوماً أن تحاربها!