إعلام التنجيم والبحث عن الجوكر
ثبت الآن، بعد انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات جنيف، أن «جعجعة» مئات الصحفيين ووكالات الأنباء لم تعكس فروقاً جذريةً في طريقة التعاطي الإعلامي معه. لفهم الآلية التي هيأت بها القنوات الإعلامية المناخ العام للمؤتمر الدولي، لا يكفي الوقوف فقط عند الأخبار التي احتوت كلمة «جنيف» في متنها، بل يجب النظر لمنظومة الأخبار والصور التي ضخّها الإعلام بتواترٍ مكثفّ قبل وأثناء جنيف وحتى الآن.
حصرت القنوات الفضائية جدول مهامها قبيل المؤتمر بتغذية الرأي العام داخل وخارج سورية بجرعة مركزة من التشاؤم والسوداوية على ألسنة «المنجمين الإعلاميين» الذين حكموا على المؤتمر بالموت قبل انعقاده، في المقابل سعت القنوات الرسمية السورية لتكريس صورة «غير واقعية» عن المؤتمر باعتباره سيقلب المعطيات على الأرض بين ليلة وضحاها. وبذلك اشتركت «الجزيرة» و«العربية» وقنوات الإعلام الرسمي السوري بإخراج المؤتمر عن سياقه الواقعي بوصفه عملية شائكة طويلة، وخطوة أولى نحو الحل السياسي.
تهيئة أوراق اللعب
انحصر الهدف الثاني من التغطية الإخبارية التي سبقت المؤتمر بتحسين الأوضاع التفاوضية للأطراف قبل الجلوس حول الطاولة. وتغذية كلمات السياسيين بالوثائق والصور كي تستخدم كأوراق ضغط لكسب المزيد من النقاط لهذا الطرف أو ذلك
ركزت التغطية الإعلامية السورية الرسمية طوال الأسابيع التي سبقت جنيف على قضية «الإرهاب»، الذي أمسى المطلب الأول في أجندة الوفد السوري، وشُغلت كل من قناتي العربية والجزيرة في الأسابيع السابقة على المؤتمر بالاشتباكات والمعارك بين الجيش الحر ودولة العراق والشام. وسعت بشكلٍ ممنهج للتفريق بين كل من «داعش» و«النصرة» و«الجيش الحر».
أي القاعدتين يريد الشعب السوري؟!
فنّدت قناة العربية ضمن نشرة أخبارها بتاريخ (13/1) الاختلافات والتقاطعات بين مقاتلي داعش والنصرة. واعتبرت أن الفريقين ينتميان للقاعدة فكرياً، ويسعيان لإقامة دولة إسلامية، ويرفضان أي عملية سياسية. لكنها عزت الفروق بينهما لكون مقاتلي داعش أجانب، يحاربون كفرق منفصلة. فيما اعتبر التقرير مقاتلي النصرة من السوريين المتأثرين بفكر القاعدة، وأضاف أن النصرة «فرق منضبطة تخضع لتعليمات قياداتها العليا، ولم يصطدم مقاتلوها مع المجتمع السوري». كما لو أن العربية تفرق للمواطن السوري بين «الأخبار» و«الأشرار» وتخيّره أي من تيارات فكر القاعدة يريد؟
جنيف مسرح الدبلوماسية
سيتذكر المشاهدون بالتأكيد أن وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، تجاهل الجرس وتجاوز الزمن المسموح لإلقاء كلمته، ما اعتبرته القنوات الرسمية السورية انتصاراً و«رفضاً للإملاءات»، وصورته الجزيرة والعربية «كاستخفاف بالآداب الدبلوماسية». هكذا تشابهت تغطية أطراف الصراع الإعلامي بتركيزها على شكلانية هذا الموقف وغيره، وتجاهل تقييّم مضمون الكلمة وتحديد ما إذا كانت الدقائق الإضافية تركت أي أثر على مجرى المفاوضات. كان شغل القنوات الشاغل دراسة لغة جسد المشاركين!! والبحث عن أي هفوة «دبلوماسية» يمكن لها أن تجذب اهتمام المشاهدين بعيداً عن «المشاهد الباردة» للمؤتمرات، مقابل دراما الحروب وسخونتها.
تعامل الإعلام مع جنيف كما لو أنه يغطي أخبار «البساط الأحمر» بدلاً من مؤتمر دولي يحاول أن يضع حداً لأزمة إنسانية ووطنية عميقة. وسعى بكل جهده لتثبيت الانطباع بأن الجلسة الافتتاحية هي النهائية.
تقاذف الاتهامات وقرع طبول الحرب
لم تختلف المنابر الإعلامية عن أطراف الصراع في التمسك بأسلوب تغطيتها أحادي الاتجاه. تركز القنوات الرسمية السورية على قضية الإرهاب، وتتجاهل جميع القضايا الأخرى التي أشعلت الأزمة قبل ثلاث سنوات. ولا توفر فرصة لفضح «دور الطرف الثاني في إفشال جنيف»
لا يختلف أداء المنابر الإعلامية في الطرف المقابل، فهي التي جندت كل قواها كي تروّج لمقولة أن «أعداد الضحايا تضاعف أثناء عقد جنيف أكثر من أي وقت مضى». لم يكد الإبراهيمي يعلن انتهاء الجولة الثانية من المفاوضات دون إحراز تقدم، حتى سارعت كل من العربية والجزيرة للحديث عن أهمية «تزويد المعارضة بمضادات الطيران والأسلحة النوعية»، وأحيت الحديث عن الفروق بين «النصرة» و«داعش».
إن كانت يد القنوات الإعلامية «قصيرة»، ولا سلطة لها لإنجاح أو إفشال المؤتمر الدولي، كان يمكن لها على الأقل «التظاهر بالموضوعية» وإخفاء الفرح والغبطة بوصول المفاوضات بجولتها الثانية لطريق مسدود. كان الحري بها أن تسود شاشاتها حداداً على الوقت المهدور والضحايا القادمين. أن تقدّم لمرة واحدة اعتذاراً صادقاً من الأطفال الذين استخدمت صورهم ومعاناتهم طوال ثلاث سنوات، لأنها لم تبذل وسعها لإيقاف الحرب في بلادهم، بدلاً من الانشغال بالبحث عن المسؤول في إفشال المؤتمر والمسارعة للترويج لترسانات الحروب، والتهليل لجولات جديدة محتملة من «الأكشن» والدماء والدمار.