المايسترو واحد

المايسترو واحد

فليترك‭ ‬المشاهدون‭ ‬الجدّ‭ ‬جانباً،‭ ‬ليوقفوا‭ ‬التجّهم‭ ‬أمام‭ ‬شاشات‭ ‬التلفاز‭. ‬ليحاولوا‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬اللعبة‭: ‬في‭ ‬البداية‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬التصنيفات‭ ‬المسبقة‭ ‬والحدود‭ ‬المصطنعة‭ ‬التي‭ ‬تفتت‭ ‬المضمون‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬التلفاز،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬ومسلسلٍ‭ ‬درامي،‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬الإعلانات‭ ‬والفواصل‭ ‬حداً‭ ‬بين‭ ‬برنامجٍ‭ ‬وآخر‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬كلٌ‭ ‬متصلٍ‭ ‬ممتد‭.

‬لا‭ ‬ضرورة‭ ‬للالتزام‭ ‬بتصنيف‭ ‬القنوات‭ ‬وتخصيص‭ ‬ملفٍ‭ ‬لكلٍ‭ ‬من‭ ‬سورية‭ ‬ومصر‭ ‬وتونس،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بملفٍ‭ ‬ضخمٍ‭ ‬واحد‭ ‬تثقله‭ ‬الأسماء‭ ‬والتفاصيل‭. ‬يمكن‭ ‬بسهولة‭ ‬الانتقال‭ ‬من«ملاعبنا‭ ‬الخضراء‮»‬‭ ‬وآخر‭ ‬نتائج‭ ‬مباريات‭ ‬التنس‭ ‬إلى‭ ‬النشرة‭ ‬الجوية‭ ‬التي‭ ‬تَعِدُ‭ ‬بزخات‭ ‬من‭ ‬المطر‭. ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬كفيلمٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬واحد‭.‬

ولتشجيع‭ ‬المشاهد‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬اللعبة‭ ‬وإعمال‭ ‬خياله‭ ‬بتركيب‭ ‬‮«‬كولاج‮»‬‭ ‬من‭ ‬القصاصات‭ ‬المتناثرة،‭ ‬وصنع‭ ‬خلطاته‭ ‬العجيبة‭ ‬الخاصة،‭ ‬يمكن‭ ‬اقتراح‭ ‬البدء‭ ‬ببضع‭ ‬شذرات‭ ‬ثبتتها‭ ‬الذاكرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬المنصرم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أسقطت‭ ‬تفاصيل‭ ‬ثانوية‭ ‬تتعلق‭ ‬بأسماء‭ ‬القنوات‭ ‬ومواقيت‭ ‬العرض‭ ‬وترتيب‭ ‬الأخبار‭ ‬ضمن‭ ‬النشرة‭.    ‬

لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬الذاكرة‭ ‬عن‭ ‬مؤتمر‭ ‬جنيف‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬سوى‭ ‬بصورة‭ ‬اليوم‭ ‬الافتتاحي،‭  ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أرادته‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬أن‭ ‬يحصل،‭ ‬حينما‭ ‬استشعر‭ ‬المشاهد‭ ‬أنه‭ ‬يرى‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنواتٍ‭  ‬أبطال‭ ‬مسلسلات‭ ‬منفصلة‭ ‬لم‭ ‬يجمعهم‭ ‬كادر‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬تحت‭ ‬سقفٍ‭ ‬واحد‭. ‬تتالى‭ ‬أخبار‭ ‬انفجار‭ ‬مديرية‭ ‬أمن‭ ‬القاهرة،‭ ‬والعمليات‭ ‬الانتحارية‭ ‬والاشتباكات‭ ‬الروتينية‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬تكمل‭ ‬الإعلانات‭ ‬ما‭ ‬بدأته‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭ ‬مروّجة‭ ‬لشركات‭ ‬إعمارٍ‭ ‬تَعِدُ‭ ‬بخلقٍ‭ ‬عراق‭ ‬أجمل‭ ‬مما‭ ‬كان،‭ ‬مع‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬شجرات‭ ‬النخيل‭. ‬صور‭ ‬شوكولا‭ ‬‮«‬جلاكسي‮»‬‭ ‬والإعلان‭ ‬الذي‭ ‬يبشر‭ ‬المستهلكين‭ ‬بعبوة‭ ‬جبنة‭ ‬‮«‬كرفت‮»‬‭ ‬الجديدة‭ ‬سهلة‭ ‬الاستخدام،‭ ‬تتوسط‭ ‬صور‭ ‬الجائعين‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭ ‬و‭ ‬مؤشرات‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬ببلدان‭ ‬العالم‭. ‬يشير‭ ‬خبرٌ‭ ‬عابرٌ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فيديل‭ ‬كاسترو‮»‬‭ ‬واعٍ‭ ‬ومازال‭ ‬يتكلم‭ ‬كثيراً،‭ ‬لتستبدل‭ ‬صورة‭ ‬المناضل‭ ‬الثوري‭ ‬بعجوزٍ‭ ‬‮«‬ثرثار‮»‬‭. ‬يتابع‭ ‬الإعلام‭ ‬تغطيته‭ ‬المكثّفة‭ ‬لتطورات‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬فرانسوا‭ ‬هولاند‮»‬‭ ‬الغرامية‭! ‬

تتالى‭ ‬الأخبار‭ ‬ويتداخل‭ ‬الواقع‭ ‬بالخيال،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬المشاهد‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬أمام‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬الكاميرا‭ ‬الخفيّة‮»‬‭ ‬أم‭ ‬نقلٍ‭ ‬حي‭ ‬لمشهد‭ ‬عبثي‭ ‬يحاول‭ ‬فيه‭ ‬بابا‭ ‬الفاتيكان‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬من‭ ‬نافذته‭ ‬حمامة‭ ‬السلام‭ ‬البيضاء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينقض‭ ‬عليها‭ ‬غرابٌ‭. ‬كلب‭ ‬يفاجئ‭ ‬صاحبه‭ ‬بقول‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬لا‮»‬‭ ‬بالإنكليزية‭. ‬خبرٌ‭ ‬آخر‭ ‬يكشف‭ ‬أن‭ ‬أجهزة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والبريطانية‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬بيانات‭ ‬المستخدمين‭ ‬الشخصية‭ ‬عبر‭ ‬اختراق‭ ‬بعض‭ ‬تطبيقات‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اللعبة‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬آنغري‭ ‬بيردز‮»‬،‭ ‬أو‭ (‬الطيور‭ ‬الغاضبة‭). ‬

يمكن‭ ‬للمشاهد‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬اللعبة‭ ‬أن‭ ‬يطفئ‭ ‬التلفاز،‭ ‬ويغلق‭ ‬عينيه‭ ‬محاولاً‭ ‬تكثيف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬شاهده‭ ‬أو‭ ‬سمعه‭ ‬واختصاره‭ ‬بأثرٍ‭ ‬بسيطٍ‭ ‬واحدٍ،‭ ‬صوتٍ‭ ‬واحد‭. ‬

لن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬الضجيج‮»‬‭ ‬وآلاف‭ ‬الأفواه‭ ‬التي‭ ‬تغلق‭ ‬وتفتح‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستطيع‭ ‬تميز‭ ‬الكلمات‭. ‬يلغى‭ ‬التنّوع‭ ‬الظاهري‭ ‬والحدود‭ ‬المزيفة‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬تعود‭ ‬فيه‭ ‬ملكية‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬للجيوب‭ ‬ذاتها،‭ ‬تتحد‭ ‬جميع‭ ‬الأصوات‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬مغردةً‭ ‬‮«‬خارج‭ ‬السرب‮»‬‭ ‬لتشكل‭  ‬أوركسترا‭ ‬منسجمة،‭ ‬يقودوها‭ ‬‮«‬مايسترو‭ ‬‮»‬‭ ‬واحد‭! ‬

آخر تعديل على الأحد, 02 شباط/فبراير 2014 11:10