«النداء الأخير .. ابدؤوا الحفر!»

«النداء الأخير .. ابدؤوا الحفر!»

التقط بشوكته القطعة الأخيرة من فطوره الفاخر، نظر إلى زميله الساخط الجالس أمامه وابتسم في وجهه بتكلف، رشف بعض النبيذ الفاخر ثم قال: «يا صديقي.. يا سام ، نحن نقوم بهذا العمل كل يوم ولأكثر من خمسين عاماً إلى الآن، إنه مجرد مال، إنه من اختراعنا، قطع من الورق عليها بعض الصور نوزعها على الناس كي لا يقتلوا بعضهم بعضاً من أجل لقمة العيش، وما نفعله اليوم ليس بالأمر الشنيع، فهو لا يختلف عن سابقاته من المرات، 1637، 1797، 1819، 1837، 1857، 1884، 1901، 1907، 1929، 1937، 1974، 1987، يا إلهي هل يمكنك نسيان كل هذه التواريخ؟.. سمها ما شئت لكنه الأمر ذاته يعود إلينا كل بضع سنين، نحن لا نستطيع التحكم به، أو إيقافه، أو حتى إبطاءه، أو التأثير به بأدنى الدرجات، نحن نتفاعل معه فقط، فنحقق أموالاً كبيرة إن قمنا بذلك بشكل صحيح، أو نترك على قارعة الطريق».

هل من رابح؟
كانت هذه كلمات المدير الكبير، الرجل الأقوى في إحدى أكبر شركات وول ستريت الأمريكي، لقد كان نهاره طويلاً وصعباً، وهاهي الساعات الأولى من الصباح تطل عليهم، وهم يدخلون نحو المجهول، إنها الأزمة الاقتصادية الأقوى التي تضرب البلاد، الذعر سيد الأجواء والكل يتمسك بكل بارقة أمل، الهدف اليوم هو الحد من الخسائر، فالخسارة آتيه لا محالة، ستضرب هذه الموجة جميع العاملين في هذه الشركة من كبيرها لصغيرها، قد تكلف البعض بضعة مليارات من مرتباتهم السنوية، لكنها ستكلف العدد الأكبر من الموظفين وظائفهم وستتركهم دون أدنى تعويض، إنه المناخ العام لأحد أشهر الأفلام التي خاطبت الجمهور الأمريكي بما يتعلق بأزمته الاقتصادية، فهو يلاحق تفاصيل الساعات الـ 24 الحاسمة في عمر جميع الموظفين هنالك، لنرَ وقع هذا الموقف الطارىء على كل من يعمل هناك، لتبدأ عملية معقدة من التسريح والتعامل مع الخسائر في محاولة يائسة لركب موجة كبيرة ستضرب جميع مرافق الاقتصاد الأمريكي دون أي رحمة.
الفيلم “Margin Call” من إنتاج عام 2011، حيث رأى الكاتب والمخرج “J.C. Chandor”  في تفاصيل الأزمة الاقتصادية التي تضرب الولايات المتحدة الأمريكية الخلفية المناسبة ليصنع فيلمه، وقد صرح في أكثر في مناسبة بأنه يريد صناعة الفيلم الصادق المعبر عن أجواء هذه المرحلة الحرجة دون أي مواربة، فكان النص حساساً ومليئاً بالكثير من التفاصيل حول هذا الموضوع، وتأتي مجموعة من ألمع نجوم السنيما لتعيد خلق تلك الأحداث أمام المشاهد، لكن وللأمانة، لم يكن الواقع مطابقاً لأحلام هذا الكاتب، حيث عجز الفيلم عن التقاط أصل المشكلة، وتجاهلت الأحداث توضيح الآثار الكارثية لنمط عمل الاقتصاد الأمريكي على الناس، لم يبحث الفيلم عن «الشر» ولم يدل عليه بالبنان، بل اكتفى باستعراض ما قام به «الأشرار» في سعيهم لإنعاش الإمبريالية الأمريكية وهي على فراش الموت.

وول ستريت.. على حقيقته
سيغرقك النص المكتوب بعناية في عبارات «التزامات الديون المضمونة» أو غيرها من المصطلحات الاقتصادية السطحية، لكن شخصيات هذا الفيلم لن تتكلم عن أزمة فائض الانتاج وهيمنة رأس المال المالي، أوموضوع المضاربات وارتباطها بالتوزيع الظالم للثروات. تستطيع فقط رؤية الكلفة الاجتماعية التي خلفها مثل هذا السلوك على الناس، على الموظفين العاديين، وسترى ردة الفعل التي سيبديها أصحاب الرساميل الكبرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وستعمل مشاهده على استعراض الفساد «الشخصي» والمحدود للقيمين على هذه الشركة فقط دون الإشارة إلى جوهر الأزمة.
وعلى الرغم من المواربة وتفادي الحديث عن أصل المشكلة، سيعمل جو الخوف والرهبة الذي نراه في جميع مكاتب هذه الشركة العملاقة خلال الساعات السابقة للضربة الاقتصادية الكبرى على تنبيه المشاهد الأمريكي على الأقل إلى وجود خلل واضح في النظام الاقتصادي الأمريكي لم يعد بالامكان احتواؤه أو حتى تجاهله، وستشير بقسوة إلى سلبيات هذا الجشع وما سيخلفه من دمار اقتصادي بعد أن ثبت عجز العقلية الامبريالية الأمريكية عن مواجهة هذه الضربات المتتالية والدورية، وسنرى في بعض مشاهده الكثير من الأمور التي لم نألفها في بقية أفلام «وول ستريت» الأمريكية التي تصنف في الخانة نفسها، والتي تعمل على تلميع صورة المكاسب الآنية التي تتأتى من هذه العملية دون أي إشارة إلى سلبياتها المروعة، لذا قد ترجح الكفة لهذا الفيلم دون غيره إن أراد المشاهد متابعة فيلم مشوق وممتع من الناحية الفنية المجردة يكشف إلى حد ما بعض كواليس عملية إدارة الأزمة ويشير إلى خلل في النظام بدلآً من الإكتفاء بالإشارة إلى خلل في إدارة بعض الأشخاص لذلك النظام كما جرت العادة في الأفلام المشابهة، وليظهر «وول ستريت» وفي إحدى المرات القليلة في السينما كوحش كاسر ينهش أركان الاقتصاد الأمريكي المتداعي.

تحت التراب.. ولو بعد حين
تنتهي مشاهد هذا الفيلم بخروج «روجر» أحد كبار الموظفين من الشركة بعد أن حاول مع فريقه الحد من خسائرها، وتحضيرها للاصطدام المروع بالموجة التي ستهز أركان الاقتصاد الأمريكي للشهور القادمة على الأقل، تدمع عيناه على موت كلبه المفضل على نحو مفاجئ، يأخذ رفشاً ويبدأ بحفر قبر لكلبه وصديق عمره، يضرب الأرض بنزق ثم يجرف التراب وهو يذكر كلمات أحد زملائه هذا اليوم، «يبدو أننا كنا نحفر حفراً لأنفسنا طوال الوقت»، يهز رأسه بعصبية ثم يمسح دموعه من جديد دون أن يتوقف لحظة عن الحفر، وأصوات الرفش الضارب في طبقات الأرض تتعالى لتغطي على أصوات الشوارع الصاخبة في الليل، يختفي «روجر» من الصورة وينتهي الفيلم بالسواد، لكن أصوات حفر القبر ما زالت واضحة، تبدأ أسماء المشاركين في هذا العمل تظهر على الشاشة، لكن الحفر ما زال قائماً وبالوتيرة نفسها نسمعه في الخلفية، هناك شيء يموت، وهناك دائماً من سيعمل على دفنه وتغطيته، علينا أن نحضر حفراً لأنفسنا أيضاً إن تجاهلنا هذه الحقيقة ومضينا في أمورنا، علينا أن نفعل شيئاً ما لوقف ذلك بدلآ من أن نكتفي بالانحناء للعاصفة و «دفن» تبعاتها، إنها الرسالة التي أراد المخرج إيصالها للجمهور الأمريكي بالذات، إنه ببساطة لا يريد أن تخرج أصوات الحفر المضطرب والمزعج هذا من رؤوسهم.

آخر تعديل على الأحد, 12 كانون2/يناير 2014 15:32