الأسماء.. الحياة في حروف..

الأسماء.. الحياة في حروف..

القطار مزدحم والطريق طويل، مئات من البشر قد كٌدسوا في عربات تعبر أرجاء الهند الواسعة، في إحداها يجلس أحدهم وهو يقرأ أحد الكتب، إنها رواية «المعطف» للكاتب الروسي «نيكولاي غوغول»، يمر الوقت ببطء على الشاب المسافر

ها هي رحلته السنوية لرؤية جده في ساعاتها الأولى، و لا بد من إضاعة بعض الوقت لنسيان هذا الاختناق البشري، لقد اعتاد على الاستنجاد برفقة الكتب لتجاوز متاعب هذه الرحلة، وها هو يحاول إكمال الصفحات الأولى عبثاً، لكن في مقطورته رجل غريب كثير الكلام، بدأ بالحديث عن أسفاره ومغامراته، أسره الحديث ومنعه من إكمال الكتاب، إلى أن أنهى الرجل كلامه واعتدل في جلسته وقال : «يا بني.. احزم وسادتك وغطاءك وارحل .. تفرج على العالم.. لن تندم أبداً»

نظر إليه الشاب مبتسماً وأشار إلى كتابه وقال: «يقول جدي دوماً أن الكتب وجدت لهذه الغاية بالذات، لكي تسافر دون ان تتحرك إنشاً واحداً» هز الرجل رأسه راضياً وترك الشاب ليكمل القراءة، لكن القطار سرعان ما سيدخل في نفق مظلم لن يخرج منه إلا حطاماً بعد أن خرج عن السكة وقذف بركابه أشلاءً مبعثرة.
إنها المشاهد الأولى لفيلم «The Namesake» للمخرجة والكاتبة والمنتجة والممثلة الهندية المميزة «ميرا نايير»، والتي اختارت إحدى أكثر الروايات تأثيراً ومبيعاً لتكون المادة الأساسية لفيلمها هذا، رواية الكاتب «جومبا لاهيري» التي تحمل الاسم ذاته، تبدأ القصة بتعرفنا على الشاب البنغالي «أشوك» وتنطلق من رحلته في ذاك القطار والتي كادت أن تودي بحياته لتستعرض لمحات من حياته وأسفاره، لقد عمل «أشوك» بنصيحة ذلك الرجل وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليكمل دراسته هناك، ثم عاد شاباً طموحاً ناجحاً في عمله إلى الهند بناء على رغبة أهله في زواج مدبر مع إحدى الجميلات من معارفهم، «أشيما» المغنية في إحدى معابد الهند، فتاة مميزة تواقة للاكتشاف والسفر بعيداً، لكنها ستلاقي عظيم المعاناة بعد الزواج والسفر إلى أمريكا، وستقف اللغة والناس ونمط العيش عائقاً أمام اندماجها مع هذه الثقافة الجديدة وستلقي بظلالها على علاقتها بزوجها الجديد، لكنها ستجد عملاً في إحدى المكتبات لتغرق في عالم من الكتب ينسيها جميع تلك الهموم.
بعد عدة سنين، ينجب «أشوك» و «أشيما» ابنهما البكر، وأسماه الأب «جوجول» تيمناً بالكاتب ذاته الذي حمل روايته في رحلته داخل قطار الموت، الرحلة التي غيرت حياته، فيكبر «جوجول» في هذه البلاد غريباً ومشتتاً بين هويته الهندية وحياته الأمريكية حتى انتهى به المطاف لتغير اسمه إلى «نيكي» حتى ينال إعجاب صديقته الأمريكية التي أحبها، إلى أن عاد بعد سنين زائراً إلى الهند، وافتتن بكل ما فيها، وأحس بعمق المعاني التي تحملها هويته الأصلية. وتتعاظم أهمية تلك التفاصيل في حياته مع وفاة والده المفاجئ وتعلقه بأمه الوحيدة، فيعلن انفصاله عن حبيبته الأمريكية التي لم تستطع استيعاب نمط تفكيره الجديد هذا، ويقرر الزواج من فتاة هندية زواجاً تقليدياً يدخل الطمأنينة إلى قلب أمه ويذكّر المشاهد بقصة الأب «أشوك» تكرر لكن بقالب معكوس تماماً.
الفيلم باللغة الإنكليزية، لكن عبق الهند وتراثها لم يغادر تفاصيل جميع المشاهد، رافقتها الموسيقا التصويرية الهندية التقليدية في مزيج ساحر مع المقطوعات الموسيقية المعاصرة، و في إيحاء عميق لمدى التناقض الذي تعيشه تلك العائلة بين ثقافتين متناقضتين، حتى أنك ستسمع ضربات قلب الأم الملتاعة على وفاة زوجها المفاجئ، وستفاجئ بتحول خيبة الأمل والعشق والغفران إلى ألحان تحبس الأنفاس، سترى كيف يمكن للتقاليد والعادات اللطيفة أن تموت في الشقق الباردة والغرف الوحيدة والأماكن الغريبة والجديدة، وكيف يمكن للتقاليد ذاتها التي أعاقت اندماجنا يوماً أن تزهر في تلك الأماكن وروداً جميلة تصدح بالأناشيد والغناء، سترى كيف تحولت تلك التفاصيل الجميلة البسيطة التي تربينا عليها من كتل جليدية تعيق تواصلنا إلى شموس ضاحكة تشرق على ليلنا الطويل في بلاد الغربة.
إنه الفيلم الأصدق عن الأعباء والهموم في تحدي  المألوف والتعلق بالجديد والمثير، عن المعنى الحقيقي للاكتشاف والانطلاق لبناء حياة جديدة، يحكي لنا عن عبق الماضي الممزوج بأدق دقائق تفاصيل حياتنا، عن ذكريات الطفولة ومعنى العائلة و والمنزل والوطن تنساب مع أصدق تعابيرنا اليومية دون مواربة أو مزاودة، تتدفق في أفراحنا وأحزاننا، في الحب والبغض، باقية كحروف أسمائنا لا تمحى.